الملحق الثقافي- وفاء يونس:
ميلان دونديرا الكاتب الروائي الذي شغل النقاد والكتّاب والمتابعين كان ضيفاً من فترة من الزمن على الصحافة الفرنسية التي حاورته ، ولم ينقل الحوار إلى اللغة العربية حتى ترجمه ك محمد فتيلينه ونشرته أخبارالأدب المصرية ومن هذا الحوار نقتطف
يُعد ميلان كونديرا، من كبار الروائيِّين التشيكيِّين الذين تركوا بصمة في الأدب الغربي الحديث. عُرف بغزارة إنتاجه الممتدّ على مدى سبعين سنة كاملة، متنقّلاً فيها بين الأدب والنقد. كما عُرف عنه عزلته الإعلامية الطوعية، وابتعاده عن الأضواء، متذرعِّاً، في ذلك-كلَّما سُئل في حواراته القليلة، بمشاكله الصحِّيّة، وباختياره للانزواء بعيداً عن الناس كي يتسنّى له الكتابة في هدوء، بعيداً عن ضوضاء غرف التحرير وصفحات الجرائد، كما تحدّث، من حين إلى حين، عن خوفه من التأويلات الإيديولوجية، إن هو أجاب عن أسئلة حول السياسة أو الصراعات الحزبية، خصوصاً أنه وُلِد في مكان، وفي زمان هما أساس الصراع في أوروبا القرن العشرين.
يتضمَّن هذا الحوار، الذي أجراه الناقد الكندي نورمان بيرون، إضاءات مرجعية لفهم عالم كونديرا الروائي، وعلاقته بالأدب والفنّ والإيديولوجيا…
بهذه المناسبة، استضافته الصّحافة الأدبيّة الباريسية، فكان له معها هذا الحوار:
نورمان بيرون: ميلان كونديرا، قبل أن أناقش ترجمة كتبك إلى اللّغة الفرنسية، أعتقد أنك جئت إلى عالم الكتابة، أوَّلاً، عبر بوّابة الشعر. أليس كذلك؟
– ميلان كونديرا: نعم كتبت الشعر، لكنني، الآن، لم أعُد أحبّه.
ألا ترى أن قصائدك جيّدة؟
– الكثير منها ليس سيِّئاً، لكن الأمر، هنا، يتعلّق بشيء آخر، فتركُ الشّعر والتوجّه صوب السرد لم يكن، بالنسبة إليَّ، مسألة انتقالية سهلة، إنها قطيعة. في هذه الحالة، أنا لم أتخلَّ عن الشعر، فحسب، بل قمت بخيانته. لم يكن الشعر الملحمي، بالنسبة إليّ، جنساً أدبياً فحسب، بل كان تصوّراً للعالم، ونظرة له؛ نظرة تخلّيت عنها مثلما يتخلىّ المرء عن اعتقاد ما.
لكن، أليس هناك نظرة (لا ملحميّة) أو (ضدّ ملحميّة)؟
– ما هو ملحميّ يتمّ تعريفه، دائماً، من خلال ما يتركه من أحاسيس. أمّا النظرة (اللّا ملحميّة) فهي الإيمان بين ما نُفكّر فيه داخل ذواتنا وبين ما هو واقعي. مسافة غير متناهية بين ما ترغب الأشياء في تجسيده أو تتخيَّل أن تكونه، وبين ما هي عليه في الواقع. إدراك هذا الاختلال هو، في حَدّ ذاته، كسر للوهم الملحمي. إدراك هذا الاختلال هو، أيضاً، فنّ السخرية، والسخرية تمثّل أحد أبعاد الرواية.
قد تبدو خيانتك للشعر غير منطقية، لأنك قمت، في سنة (1965)، بنشر مختارات من شعر «أبولينيز» داخل ترجمتك الخاصّة، التي بدأتها بدراسة مُطوَّلة…
– نعم، تمَّ طبع هذه المختارات الشعرية في العاصمة براغ، وقد تمَّ سحب (55000) نسخة، ونفدت الطبعة خلال أيّام.
إذا كنت لا أحبّ -شخصياً- كتابة الشعر، فهذا لا يعني أنني لا أحبّ ما يكتبه الآخرون، فـ«أبولينير» هو عشقي الكبير.
لكننا نستطيع أن نجد، في رواياتك، مقاطع تحوي مخيِّلة شعرية بشكل مكثّف جدّاً.
– مدرسة الشعر الملحمي تُعتَبر ضرورية لأيِّ روائي. علينا ألّا ننسى أن الشعر الملحمي حمل معه أكبر تجديد، وأكبر مبادرة لفائدة الأدب الحديث، منذ بودلير حتى السرياليين؛ إذ تحرّرَ الخيال، وعُرف الاقتصاد اللغوي في التعبيرات، وزادت المقدرة على الاستحضار، وعلى التأثير عبر صورة واحدة.
كنت أرغب في أن يكون كلّ فصل من روايتي مُعبّراً عن نفسه، مختصراً، ومُكثّفاً كقصيدة شعر. لكن الفيصل، بالنسبة إليّ، هو منظوري الذاتي للأشياء بشكل كلِّي، وهذا يشمل، أيضاً، المنظور الساخر، ومنظوري لمنطق الغموض، ومنظوري لنسبية الحقائق والمشاعر والمواقف. باختصار، هو موقف، أراه أقرب إلى (الـلاملحميِّة).
بعد مرحلتك الملحميّة، كتبت كتاباً نظرياً بعنوان «فنّ الرواية». أمؤمن أنت بمستقبل الرواية؟
– كانت الرواية، على مدى تاريخها، محلّ اعتراض، وذلك من طرف أكبر مبدعيها، فأن تكون الرواية مُعارَضة من طرف ذاتها، هذا يعود، في الأصل، إلى طبيعتها. كتاب «جاك، الحتمي»، للكاتب دنيس ديدرو، هو استهزاء متواصل بالرواية، لكنّه يعتبَر، في الآن نفسه، من أفضل أعماله الروائية. احتقر إيميل زولا الرواية، ولم يرغب في اعتبار كلّ كتبه روايات. في القرن العشرين، تحدّث الكُلّ عن الرواية بما يشبه النعي: السرياليون، والطلائعيون الروس، كما أكّد أندريه مارلو أن الرواية ماتت ما إن توقِّف هو عن الكتابة.
أترون؟ هذا غريب، حقّاً! لا أحد يتحدّث عن موت الشعر، رغم ذلك. منذ الجيل العظيم للسرياليين، لم أعرف أيّ أثرٍ شعريّ عظيم ومتجدّد. لا أحد يتحدّث عن موت الرسم، ولا عن موت المسرح، ولا عن موت الموسيقا، ورغم هذا تخلَّت الموسيقا، منذ « شونبيرغ»، عن كلّ التقاليد الموروثة، القائمة على الأصوات والمقاطع والآلات، طوال ألفية كاملة.
أحبّ كثيراً أعمال إدغار فاريز، وكذا إيانيس زيناكيس، لكن السؤال هو: هل ما زالت هذه الآثار تُعتَبر موسيقا؟ يَعتبرُ فاريز ألحانه كشكلٍ من تنظيم الأصوات. ربَّما ماتت الموسيقا منذ عشريات كاملة، دون أن يتحدّث أحدٌ عن ذلك. مُقارنة مع كلّ الأجناس الفنيّة، الرواية -وحدها- هي الأقلّ اندثاراً.
ألا تعتبر أن روايتك الأولى «المـُزحة» نصّاً يصف بيئة معينة لجيل ما؟
لا، لم تكن لدي أيّة نيّة لكتابة سيرة، أو التّعبير عن حقبة ما. وبسبب عدم وجود كتب تُوثّق للثلاثين سنة الأخيرة من تاريخ بلدي، فإن رواية «الـمُزحة» تولّت وظيفة التوثيق التاريخي، فقامت الرواية بذلك دون وعي منّي، بل على مضض. ما كان يهمّني ليس الوصف التاريخي بقدر ما هو المشاكل المصاحبة له، أو -لنقلْ- المشاكل الميتافيزيقية، والوجودية، والأنثروبولوجية. أترى؟ أبحث، بصعوبة، عن المفردات المناسبة للوصف. باختصار، أبحث عمّا يُعرف بالمشاكل الإنسانية الأزلية، والتي يُسلّط عليها النصُّ التاريخي الضوء.
ألا تعتقد أن رواية «المُزحة»، ما هي، في الأخير، إلّا مُزحة؟
– نعم: كيف أن المزحة تستحيل إلى شيء حتميّ، وكيف أن المصير يتحوَّل إلى مُزحة. والتاريخ نفسه، ألا يمزحُ معنا؟ في روايتي، هناك قصّة حُبّ أخرى: أحَبَّ لودفيك، في شبابه، فتاة بسيطة لم تقبل به، والسبب أنها تعرّضت، في طفولتها، إلى صدمة تمثّلت في اغتصابها من طرف أحدهم، فارتبطت المضاجعة، بالنسبة إليها، بالوحشية، والحبّ الحقيقي يتجاوز مسألة الجسد؛ لذا أصبح التعبير عن الحبّ جسديّاً مسألة مشوّهة. في الماضي، أحَبَّ لودفيك أوهامه الاجتماعية، لكن هذه اليوتوبيا ثبت أنها متوحِّشة ودموية. بدت له اليوتوبيا الاجتماعية ذات قيمة خرِبة، فامتلأ حقدَاً نحو حلمه القديم، لكنه يعلم، في الوقت نفسه، أن هذا الحقد ليس إلّا خطأً آخر، هو نوع آخر من الظلم. هل عليه أن يُبغض قِيَمَهُ المُتهالكة، أم عليه -بالأحرى- أن يُناشد تعاطفاً نحوها؟ أترى كلّ شيء مقلوباً في الرواية؟ إنها رواية عن هشاشة القيم الإنسانية، وليست عن شجب نظام سياسي ما. طموح الروائي هو أكبر من مواجهة نظام سياسي زائل.
جئت على ذكر أراغون، الذي لم يكن يعرف كيف ستكون عليه نهايات رواياته. هل تعرف أنت أين ستنتهي روايتك؟
– ألّا يعرف الروائي شكل نهاية عمله، هو إشارة بأن هناك موهبة، في الأساس. تبدأ الفكرة (وهنا سأبسِّط الأمر) بتصوُّر الشخوص التي ستصبح، لاحقاً، معروفة، وتكون قادرة على إثراء القصّة، هكذا يفاجئ السردُ الروائيَّ نفسه. عليّ القول إنني-بطريقة ما-أعرف إلى ما ستؤول إليه الأحداث؛ هي طريقة موسيقية في التفكير، ففكرتي الأولى لكتابة الرواية تقوم على التوزيع النسبي. حين بدأت كتابة عملي «المزحة»، كنت على دراية بأنها ستكون في حدود سبعة أجزاء، أجزاؤها: الأوَّل، والثالث، والخامس سيكون السارد فيها هو الشخصية الرئيسية (لودفيك)، أمّا، في الفصول: الثاني، والرابع، والسادس فيأخذ آخرون بخيط السرد، وفي الجزء السابع تتعدّد الأصوات السردية، من خلال شخوص الرواية معاً. فكرة البناء، بالنسبة إليّ، هي مسألة مُحَدّدة وليست شيئاً ذهنياً لا شعورياً. انظر إلى بناء رواية «الحياة هي في مكان آخر» الذي كان متجانساً، إذ تَمَّ تقسيم الرواية إلى سبعة أجزاء، الفصول: الأوَّل، والثالث، والخامس هي مُطوَّلات ملحمية، تحكي حياة الشخصية الرئيسية، أمّا الفصول: الثاني، والرابع، والسادس فتمثِّل استراحات سردية، بينما الفصل السابع هو أشبه بالمونتاج (تركيب) متعدِّد الأصوات.
أنت مولع بالعدد سبعة…
– بكلّ تأكيد، نعم. أحبّذ، على الدوام، الأعداد الفردية، وأُفضّلها على الزوجية، كما أرى أن بدايات الأعداد الفردية التي لا تقبل القسمة على عدد آخر (أي لا تقبل القسمة إلّا على نفسها) هي الأفضل دائماً. على سبيل المثال: «فالس الوداع» مقسّمة إلى خمسة أجزاء، بينما «المزحة» و«الحياة هي في مكان آخر» مقسمتَيْن إلى سبعة أجزاء لكلّ منهما، بينما «غراميّات مرحة» هي سبع قصص.
هل يتعلق الأمر بسحر الأرقام؟
– أعلم أن هذا قد يبدو لك سخيفاً. لنقل إن هذا، من ناحيتي، ليس إلّا لعبة، وهو أشبه بمن يدفعك، في الصباح، إلى الخروج من بيتك بقدمك الشمال، وأنت تعرف أنه أمر يتطيّر منه الناس، لكنك -رغم ذلك- تلعب مع هذا الأمر، وتعتبره لعبة، وهو لا يخلو من بعض العُمق. ليس للأرقام معانٍ سحريّة، لكنها فعّالة. إذا ما قسّمنا رواية ما إلى جزأين أو أربعة أجزاء أو ثمانية، فإننا -في الحقيقة- نقسّمها إلى نصفَيْن، ولن تكون مترابطة بما فيه الكفاية أو موحّدة أو مضغوطة. لخلق وحدة حقيقية للبناء، على هذا البناء أن يكون مضمراً؛ وهذا هو المعنى الأوّلي للأرقام، فلا «المزحة» ولا «الحياة هي في مكان آخر» كانتا تقبلان بتجزئتهما إلى جزأين، أو ثلاثة أجزاء؛ بناؤهما مضغوط جدّاً، إنه، أيضاً، سؤال عن التناسب والأرقام. أعترف أن هذا الشكل من التناسب هو خاصِّيّة تُميّز الملحِّن عن الروائي.
– إذا كنت على ثقة من أن العالم الذي يُحيط بك، لا يستحق أن تأخذه على محمل الجدّ، فهذا يدخل في باب الاستنتاجات المُذهلة. الصرامة تُصبح عبثاً؛ لذا لِمَ عليك أن تكون جادّاً أمام شخص لا يحمل الأمور على محمل الجدّ، وهو ليس إلّا أحمق؟ لماذا عليك قول الحقيقة، أو أن تكون فاضلاً؟ لماذا تحمل الأمور على محمل الجدّ؟ كيف يحمل المرء نفسه على محمل الجدّ، في عالم لا معنى له؟ سيكون هذا، على الأرجح، في غاية السخف. الإحساس بعدم أخذ العالم على محمل الجدّ هو الهاوية. «غراميّات مرحة» هي مجموعة قصصية غريبة تجري على حافّة الاستعجال.
نأتي، الآن، على ذكر روايتك «الحياة هي في مكان آخر»، التي نلت بها جائرة «ميديسيس» (1973). لِمَ هذا العنوان؟
– هي جملة لـ «رامبو». في ثورة (1968)، كتبها الطلبة على الجدران كشعار. هي وهم الشباب الخالد، وحلم أولئك الذين عجزوا عن تجاوز سنّ المراهقة، هذه الرغبة في ولوج الحياة الحقيقية تتحكَّم في الثوّار الشباب، وكذا الشعراء الشباب.
في مستوى أوَّل، يعتَبَر «جاروميل» الشخصية الرئيسية. أليس هو ضحيّة لأمّ متسلِّطة، أم أنك بالغت في حمايته؟
– قبل أن أكتب هذه الرواية، قرأت كثيراً عن سِيَر الشعراء الذاتية، فلاحظت أن جُلّهم شعروا بغياب الأب القوي. الشعراء خرجوا جلّهم من بيوت تديرها أمَّهات. كان هناك الكثير من الأمَّهات اللاتي بالغن في رعاية أطفالهنّ، ومن هؤلاء -على سبيل المثال- والدة «ألكسندر بلوك»، ووالدة «ريلكه» ووالدة «أوسكار وايلد»، كذلك والدة الشاعر الثوري التشيكي «جيري وولكر»، الذي تركت سيرتُه الذاتية أثراً كبيراً في نفسي، وألهمتني الكتابة. هناك أمَّهات عاديّات، لكنهنّ لسن أقلّ حرصاً، مثل أمّ رامبو؛ لذا فقد ابتكرت هذا التعريف للشاعر: هو شابٌ تقوده أمّه، يُعرَض على عالم، لا يستطيع الولوج إليه.
ألا توجد رواية واحدة تنقل سيرتك الذاتية، ضمن أعمالك الروائية؟
– ما هي رواية السيرة الذاتية؟ هي روائيٌّ ما، يرغب في شرح حياته وظروفه من خلال نصّ مُشفَّر. هذا أمر مزعجٌ، وغبيّ. من الأفضل له أن يكتب مذكِّراته ليكون أكثر صدقيّةً. من الطبيعي أن يستحضر الروائي، في أثناء كتابته، بعضاً من حياته (وهذا مختلف عن كتابة السيرة الذاتية)، ولكن عليه أن يخلق عالماً تخييلياً مستقلّاً عن عالمه الخاصّ.
في البداية، تمّ التضييق على رواياتك، ثم مُنِعت، ألا يعود ذلك إلى موقفك، والتزامك السياسيَّيْن؟
– لا أحبّ الروايات السياسية، لأنها من أسوأ الروايات من حيث كتابتها. لكن الناس، في هذا العصر المليء بالسياسة، هم حسّاسون للقضايا السياسية، وسوف أعطيك مثالاً: قلت إن جاكوب -بحسب رأيك- هو الشخصية الرئيسية في الرواية، لكن الأمر ليس كذلك؛ فهو بالأهمِّيّة ذاتها لباقي الشخوص، مثله مثل «بارتلاف» أو الدكتور «سكريتا». لكن، لماذا اعتبرته أنت الشخصية الأهمّ؟ لأنه -ببساطة- الشخصية الوحيدة التي لها معنى، ووجود سياسي؛ وهذا ما يجعله، في وقتنا الراهن، الشخصية المُسيّسة الأكثر أهمِّيّةً، ولكن هذه النظرة خاطئة.
هذا صحيح، بالتأكيد. ولكن، هل ترى أن هناك حياداً في الأدب؟
– إذا ابتعدت الرواية عن الأيديولوجيا السياسية لعصرنا، ورفضت المساهمة في التبسيط الإيديولوجي، واتَّجهت إلى العُمق، فإنها ستكون حيادية، بالتأكيد، بل مُتحدّية أيضاً؛ لأن دور الرواية هو قلب النُظم السائدة، وقلب ما هو طبيعي، من خلال مقاومة الأفكار المُسبقة. كتابة الرواية هي خلق الشخوص، وإن كان هذا النشاط الكتابي لعبة مستهجنة، لكنها -في الأخير- لعبة ذات أهمِّيّة. كلّ هذا يُعلّمنا فهم حقيقة الآخرين، وشكل حقيقتنا المحدود، كما يجعلنا نفهم العالم كنقطة استفهام من منظورات مختلفة. هذا يُفسِّر لماذا تكون الرواية فنّاً عميقاً يُجابه الأيديولوجيا. إنها كذلك لأن الأيديولوجيا تصوِّر لنا العالم من وجهة نظر الحقيقة الواحدة، تُقدّمه لنا كصورة لهذه الحقيقة، لهذا أقول وأكرّر: إن الرواية هي فنّ مقاوم للأيديولوجيا، وهي وسط عالمنا المُتوحّش بسبب أن الأيديولوجيا ضرورة كالخبز.
أليس قاسياً عليك -بصفتك كاتباً تشيكيّاً – ألّا يتاح لقرّاء بلدك متابعة أعمالك، وقراءتها؟
– عموماً، هي وضعية غريبة! تخيّلوا أنني أكتب رواياتي باللّغة التشيكية، ولأنها تُعبّر عن وجودي في بلدي، فلا أحد بمقدوره قراءتها باللّغة الأمّ، لذا تُرجِمت -أوَّلاً- إلى الفرنسية، وطُبعت في فرنسا، ثم في بلدان أخرى، بينما بقي النصّ الأصلي، باللّغة التشيكية، في درج مكتبي جامداً، كقالب بائس. تسأل إن كان قاسياً، بالنسبة إليَّ؟ لا أدري. ما زلت أشعر بهذه الوضعية الغريبة التي لا يمكنني الحُكم عليها. على أيّ حال، أشعر بأنني محظوظ جدّاً لأن لديّ مترجم ممتاز، وهو -إضافةً إلى كونه مترجماً- وصديقاً لي، كما أنه شاعر، بحقّ. «فرونسوا كارال»، ترجَم روايتي الأخيرة بطريقة تماثل النصّ الأصلي.
العدد 1113 – 27- 9-2022