الملحق الثقافي – وفاء يونس:
منذ عقود والصحافة السورية تناقش الكثير من قضايا اقتصاد المعرفة والثقافة ، وما يجب أن نقوم به ، هذه الرؤية التي كتبها الدكتورفيصل سعد واحدة من العشرات ، نستعيدها لأنها مازالت حبراً أخضر يجب أن يعمل به .
يقوم الواقع الاجتماعي -بشكل عام- على ثلاث بنى أساسية هي الاقتصادية والسياسية والبنية الفوقية الثقافية. وتترابط بنى الواقع الاجتماعي بصورة جدلية إذ كلّ منها هي ،في الوقت نفسه ،مكونة بغيرها ومكونة لغيرها على خلفية تقاطعها والجدل ،التأثير والتأثر،الذي يحكمها إن في وجودها أوفي تطورها وصيرورتها. والثقافة ليست مجرد تحصيل حاصل عن الاقتصاد والسياسة ،وإنما هي، في آن معاً،سبب فاعل أوفعّال لنفسها ولغيرها من البنى والظاهرات الاجتماعية الأخرى .والأكثر من ذلك هو أن الثقافة كناتج للفعل على الذات ،في نهاية المطاف،هي شرط تبادل الفعل مع الآخر،وهذا الأخير هو،بدوره ،شرط الفعل على الطبيعة .وفي حين أن الفعل على الآخر وعلى الطبيعة هو، على التوالي الشرط السياسي والاقتصادي للفعل على الذات ،فإن الفعل الأخير هو الشرط الثقافي للفعلين الأولين . ومن دون الشرط الأخير يغدو الفعلان السياسي والثقافي فعلين فوضويين غير عقلانيين، وبالمقابل،فإن الفعل الثقافي من دون شروط سياسية واقتصادية ملائمة هو فعل إنشائي غير واقعي.
على هذا النحو يبدو تداخل بنى الواقع الاجتماعي التي تتبادل أدوار السبب والنتيجة باستمرار إذ كل منها هو،في آن معاً،سبب ونتيجة أو علة ومعلول.وبالتالي ،فإن البنى المتعددة تكون بصورة عامة،على مقاس واحد وعلى درجة واحدة من سلم التطور الحضاري أو التاريخي،ذلك أن تخلف بعضها يفترض تخلف البعض الآخر،وكذلك الأمر أيضاً في حالة التقدم .
والحال ثمة أزمة ثقافية تجتاح مختلف بلداننا العربية ،وتعبر عن نفسها بالتبعية الثقافية على خلفية أزمة أوغياب الإنتاج الثقافي في الوطن العربي .وبدورها,تنعكس التبعية الثقافية في واقع العجز التام عن إنتاج ،أوالمساهمة في إنتاج كلّ من العلوم الطبيعية والاجتماعية وكذلك في ظاهرة فقر أوبؤس الوعي الاجتماعي العام في مختلف مجالاته وأنماطه وأوضاعه وأشكاله المتعددة السياسية والحقوقية والفلسفية والأخلاقية والجمالية أو الفنية و..الخ.
وإذ تقوم التبعية الثقافية على نقل (هوامش) الثقافة التي تعبر عن وقائع الأوطان المتبوعة( الغربية) ،فإن التبعية الثقافية في بلداننا تكافئ أوترادف الثقافة اللاوطنية في هذه البلدان .ذلك أن التبعية الثقافية تقوم على تجاهل أوجهل التراث التاريخي للثقافة في المجتمع التابع المعني ،الأمر الذي يسقط بعداً أساسياً من أبعاد الثقافة الوطنية أو وطنية الثقافة. والأخطر من ذلك هو أن الفكر الغربي الذي نستورد قشوره الخارجية فحسب ليس نتاج بنية اجتماعية تاريخية مغايرة لبنيات بلداننا فقط،وإنما كذلك مهيمنة عليها أو مستعمرة لها في مناطق وبلدان عربية عديدة.
وبالنتيجة فإن (تطور) الثقافة التابعة في هذه البلدان على هذا النحو من ثنائية الفكر والواقع قد صيرها فكراً من دون واقع أوواقعاً من دون فكر وتبعاًَ للفيلسوف المغربي المعروف محمد عابد الجابري،فإن فقدان العلاقة بين الفكر الغربي والواقع العربي قد جعل الخطاب الثقافي في الوطن العربي خطاب تضمين لا خطاب مضمون .الأمر الذي يجعل ،بدوره الثقافة التابعة مجرد ثقافوية مبتذلة تدعي الثقافة دون أن تستحوذ على مقوماتها .وفيما الدولة القومية ،كتعبير سياسي عن وحدة الأمة ،ركيزة أساسية من ركائز الثقافة الوطنية ،فإن غياب الدولة القومية للأمة العربية الواحدة هو حقيقة من حقائق أزمة الثقافة العربية .فالثقافة. بحسب فرانز فانون، تعبير عن الوعي القومي الذي هو أنضج وأرفع أشكال الثقافة في عصر متعدد القوميات ،وبالتالي ،تحتضر الثقافة أو تنضب متى فقدت ركيزتها الأولى وهي الأمة -الدولة. وتبعاً للفيلسوف الألماني الكبير ،فإن الشعب المتخلف سياسياً لا يمكن له أن ينتج علماً أو فلسفة حقيقية ،ذلك أن وجود الدولة القومية وتقدّمها السياسي شرطان لازمان لنهضة العلوم وكذلك الفلسفة والفنون والآداب.
على هذا النحو تبدو أزمة الثقافة العربية التابعة ،كبنية فوقية مأزومة تعكس أزمات البنى التحتية الاقتصادية منها والسياسية في البلدان العربية.
فعلى جانب البنية الاقتصادية هناك (سلة) من الوقائع تؤكد، بصورة واضحة، حقيقة الواقع العربي المأزوم على هذا الجانب الأساسي من الواقع الاجتماعي، فالتجزئة الاقتصادية للخارطة العربية واقع خطير من وقائع التخلف الاقتصادي للوطن العربي، وإذ هي ، في الأصل نتيجة للتجزئة السياسية، فإنها اليوم كما كانت في الأمس، واحدة من أخطر أسباب أو خلفيات التجزئة الأخيرة.
وعلى خلفية التجزئة الاقتصادية للمنطقة العربية تبرز التبعية الاقتصادية لكافة صورها التكنولوجية والمالية والغذائية والتجارية.
فالبلدان العربية تستورد نحو ستين بالمئة من مواد وسلع غذائها اليومي الأساسي، وفيما تفوق المديونيّة الخارجيّة لبلداننا العربية إجمالي الدخل السنوي لهذه البلدان مجتمعة، فهي بالقيم النسبية أكبر سوق في العالم لتصريف السلع الأجنبية، الخفيفة منها والمتوسطة والثقيلة، وإذ لا تتعدى نسبة التجارة العربية البينيّة الخمسة بالمئة من إجمالي التجارة الخارجية للبلدان العربية، فإن إقتصاداتنا القطرية هي أكثر الإقتصادات في العالم انكشافاً على الأسواق الخارجية.
ولطالما العلوم الطبيعية نتاج الممارسة الإنتاجية أو الفعل على الطبيعة، فإن التبعية الإقتصادية من جانب بلداننا العربية هي السبب الرئيس لغياب هذه العلوم في هذه البلدان، ذلك إن المجتمعات التي تعتمد على نقل أو استيراد السلع الأجنبية (جاهزة على المفتاح) تفتقر لأهم شروط إنتاج تلك العلوم أو حتى مشاركة الآخرين في إنتاجها، إذ تعمد إلى استيرادها بصورة نصوص جامدة من الصعب في ظروف غياب الممارسة الإنتاجية، (فك حزمتها) على غرار العجز عن فك حزم التكنولوجيا المستوردة.
وبإعتبار الفلسفة والعلوم الإجتماعية المتعددة علوماً سياسية بالضرورة الطبقية والقومية، فإن تخلف البنى السياسية الطبقية منها والقومية هو من الأسباب البنيوية أو الهيكلية الخطيرة لأزمة هذه العلوم في البلدان العربية، الأزمة التي تعبّر عن نفسها بنقل
واستيراد المقولات والنظريات الاجتماعية الاقتصادية والسياسية من البلدان الأخرى الأجنبية دون المساهمة في إنتاجها، أو حتى في إعادة إنتاجها على ضوء ملموسيات الواقع العربي وخلفياته الإيديولوجية أو سياقاته الاجتماعية والتاريخية.
فالعلوم الاجتماعية نتاج طبيعي عن العلاقات المتكافئة بين طبقات المجتمع المعني وكذلك العلاقات الندية بينه وبين المجتمعات الأخرى.
وبالتالي، فإن غياب هذا النمط من العلاقات المتوازنه هنا وهناك هو في مقدمة أسباب تواري مجتمعاتنا بعيداً خارج أكاديميات إنتاج المفاهيم والنظريات الاجتماعية والسياسية.
وكنتيجة طبيعية للعجز العربي على مستوى إنتاج أو تطوير العلوم الطبيعية والاجتماعية، فإن الطابع العام للثقافة العربية أو للوعي الاجتماعي العربي هو طابع غير علمي يعبر عن نفسه بطوابع أخرى متعددة أسطورية أو ميتافيزيقية في حالات غيرنادرة، هذا هو المستوى الثالث لأزمة الثقافة العربية على خلفية البنى العربية التحتية المأزومة.
على هذا النحو تبدو أزمة الثقافة العربية على خلفياتها البنيوية السياسية والاقتصادية في عموم البلدان العربية، وأما الخروج من هذه الأزمة، فهو مشروط بشرط الخروج من أزمة الاقتصاد والسياسة في هذه البلدان، ذلك أن الإنتاج الاقتصادي يكفل أهم أسباب إنتاج العلوم الطبيعية فيما الاستقلال أو الفعل السياسي الإيجابي يضمن شروط إنتاج المعارف والعلوم الاجتماعية المختلفة، وفي ظروف إنتاج هذين النمطين من العلوم يكتسي الوعي الاجتماعي طابعاً علمياً بكافة ألوان الطيف الثقافي، وبالنتيجة تتحقق أركان الثقافة الأساسية شرطاً من شروط الصيرورة التاريخية لبلداننا العربية.
العدد 1119 – 8-11-2022