الملحق الثقافي- فؤاد مسعد :
تتفاوت الآراء والمواقف اليوم حول مستوى ما يُقدم من أعمال درامية تلفزيونية سورية على الشاشات العربية، هناك من لا يرى إلا الجزء الملآن من الكأس بينما لا يرى آخرون إلا الجزء الفارغ منه، في حين أن هناك من يسعى إلى توصيف المشكلات بموضوعية بناء على معرفة ودراية بما تواجهه آليات الإنتاج والتسويق والعرض من صعوبات وعراقيل ومشكلات، فيقرع ناقوس الخطر منبهاً مما يُحدق بها مشدداً على أهمية التحرك باتجاه إيجاد حلول مناسبة، بعيداً عن جلد الذات أو التعامي عن الواقع، وبين هذا وذاك مسافة لا بد من قراءتها بتمعن ودراية خاصة أن الفضاء بات مفتوحاً على مصراعيه أمام المُشاهد ليتابع ما يجذبه وأينما كان.
لا بد من التأكيد أن الدراما السورية لم تأت من فراغ وليست وليدة مصادفة أو فورة إنتاجية، وإنما بنيت بجهد وتعب رواد أوائل مؤسسين شيدوا بنيانها بحب وتفانٍ، لا بل ربما من أهم ما يجعلها مؤهلة لتأخذ دورها المتقدم ما تتمتع به من عراقة وأصالة، وبنظرة خاطفة إلى الوراء نستذكر مستوى ما كان يُقدم أيام الأسود والأبيض، وفيما بعد خلال مرحلة الانتشار على الفضائيات وما أنجز من أعمال شكّلت فيصلاً مهماً على صعيد الحراك الدرامي العربي بشكل عام، ولكن تراكم المشكلات والأزمات فيها ظهرت نتائجه فيما بعد، فبقيت عاجزة عن إرساء أعراف وتقاليد حقيقية لقيّم فنية وإبداعية وإنتاجية تترسخ بفعل التراكم مع الزمن وتمتلك القدرة على إنجاز بنية هرمية متصاعدة تحقق الجودة نوعاً وكماً وتتماشى مع التطور.
مما لا شك فيه أن هناك بوناً شاسعاً بين المأمول وواقع ما يجري ضمن الساحة الفنية من استباحة لعادات وتقاليد إنتاجية وفنية سعت الأجيال السابقة إلى محاولة ترسيخها، ولكن أطيح بها في ظل فوضى إنتاجية افتقرت إلى التخطيط المُسبق وللرؤية الاستراتيجية، هو واقع عام يعاني منه الإنتاج الدرامي اليوم عدا طفرات فردية هنا وهناك، فليس هناك أعراف إنتاجية أو تقاليد مهنية تحكم الساحة وإنما هي لغة السوق التي تتحدث وتسود، وارتجالات يقود جزءاً ليس بالقليل منها رأسمال أمّي ذهب باتجاه ترسيخ ما يخدم مصالحه بعيداً عن النواظم الإنتاجية والابداعية، وهو ما يُجيّر على الكثير من الأمور بما فيها استبدال ممثل أو مخرج مهم بمبتدئ متواضع الموهبة بسبب خلاف على الأجر مع المنتج دون الأخذ بالحسبان للأصول الفنية وآليات التعامل مما يعكس عدم دراية بأهمية المادة التي تُقدم وعدم احترام للآخر وللمهنة، أو أن يتم تعامل المنتج مع فنانين لهم مكانتهم وخبرتهم وفق مبدأ (هذا ما لدينا إن عجبك وقع العقد وإن لم يعجبك فهناك مئة فنان يمكن أن يقبلوا بشروط أقل)، إضافة إلى عقود الإذعان التي تُفرض على الممثلين والفنيين وقلة الأجور وظهور أعمال بعيدة كل البعد عن المشاهد السوري وهمها محاكاة وإرضاء رغبات البعض، كما تم إرساء علاقات غير صحية بين العديد من المنتجين، فعوضاً من أن تكون المنافسة شريفة ميزانها أهمية العمل وجودته تحولت إلى منافسة تكسير أسعار على عتبات المحطات والخضوع غير المشروط لشروط العرض ولمتطلبات بعض الرقابات العربية والمعلنين، والمصيبة سعي شركات إنتاج إلى الدفع بأشباه مبدعين ليحتلوا المشهد مستغلين انكفاء كتاب ومخرجين مهمين عن العمل ضمن شروط مجحفة، والهدف في ذلك كله محاولة تقليل النفقات إلى أدنى حدودها وتصوير العمل بأبخس الأثمان، وفي النتيجة هي أمراض توهن جسد الدراما السورية منذ سنوات، وتزداد حضوراً يوماً بعد آخر لتشكل في مجملها آليات لا بد من إعادة النظر فيها لأنها تحمل في عمقها وأبعادها الكثير من التشوهات التي تكرست بفعل العادة والأمر الواقع وأثرت سلباً على مجمل مفاصل الحراك الدرامي.
أمام ما تمتلكه الدراما السورية من حضور ومقومات لا بد من الوقوف أمام مسؤولياتنا، الأمر الذي يستوجب وقفة صادقة مع الذات في سعي لقراءة مفردات الواقع على حقيقتها دون مواربة أو خجل أو ممالأة، فلنقرأ الواقع جيداً شرط أن نعرف مكاننا بشكل صحيح، لنكون أكثر جاهزية لمرحلة قادمة خوفاً على درامانا وسعياً للمحافظة على تألقها الذي عهدناه، وليكون نجاحها متجذراً راسخاً وسط تصاعد التحديات أمامها على أكثر من صعيد، ليكون البناء أكثر شموخاً ورسوخاً ومتانة لا تهزه الرياح مهما كانت عاتية حتى وإن حملت إغراءات وإملاءات إنتاجية، فنتخطى حالة التكهنات نحو حالة تُبنى على أسس متينة وتؤسس لصناعة حقيقية لها منطقها وآلياتها ومنهجها بعيداً عن القول أننا مازلنا في مرحلة إرساء عادات وتقاليد إنتاجية وفنية، فهذه المرحلة أشبِعت إرساء وترسيخاً للتقاليد حتى إنها باتت تعج بمن لهم شأن ومن ليس لهم شأن أو دراية بالدراما.
الإنتاج الدرامي السورية يستحق أن يتحول إلى صناعة يتم حمايتها وحماية العاملين فيها من خلال قوانين يصعب على أعراف رأس المال اختراقها مهما امتلكت من أساليب. وعلى صعيد آخر من الأهمية بمكان ترسيخ حضور الرأسمال المثقف الواعي الذي يمتلك مشروعاً تنويرياً وإبداعياً، لأن وجوده لا يشكّل اليوم الحالة الأعم «للأسف» في ظل وجود إنتاجات رخيصة في كل شيء حتى في الأفكار والرؤى البصرية. فالدراما مُنتج وطني استراتيجي يحتاج إلى تنظيم وفق صيغ إبداعية تتماشى مع روح العصر، وإلى الابتعاد عن الاستسهال وإيجاد حلول بديلة سريعة والإيمان بأهمية دعمها في كل مفاصلها الإبداعية والإنتاجية والمالية والتقنية والترويجية والتسويقية، لتأخذ مكانها الحقيقي في السير على الطريق الصحيحة لها لأنها سفيرتنا الأكثر تأثيراً لدى المشاهد العربي.
العدد 1119 – 8-11-2022