الملحق الثقافي- ميسون حداد:
عندما نقرأ ننتقل بين عوالم الأفكار، أما الكتابة فهي أن تأخذ الآخرين إلى عالمك الخاص.
في رواية «عدّاء الطائرة الورقية»، يأخذنا خالد الحسيني بلغته المرهفة وصوره الرائعة، ليعرفنا على «أفغانستان» كما لم نعرفها من قبل، وعبر الحوارات يجعلنا نتغلغل في نفوس شخصياته بسرديّته الوصفيّة المذهلة وهي تتنقل بين الحب والشرف، الذنب والخوف، والتوبة.
لطالما ارتبطت بأذهاننا تلك الصورة عن «أفغانستان الخراب»، رجال بلحى طويلة ونزاعات طائفية، بينما يصّور لنا الحسيني «أفغانستان» ما قبل طالبان، بلد جميل تُقرأ فيه الكتب ويُنظم فيه الشعر وتمارس فيه منافسات لعدائي الطائرات الورقية، يكتب بدفء وحميميّة عن أفغانستان وأهلها ويجيد التصوير العاطفي للأفغان والحضارة الأفغانية، وكأنّ الرواية تفوّقت على كتب التاريخ حينما أخذتنا لمعايشة الأحداث.
يسرد لنا الكاتب أحداث الرواية على لسان «أمير» الطفل الذي عانى من جفاء والده والذي كان يتوق إليه بشدة ويشعر بالغيرة من أي التفاتة حبّ يبديها الأب نحو «حسن» ابن خادم أبيه، والذي تربطه به صداقة وثيقة، هو الخيط الذي يربط الحكاية بأكملها، ولم يكن أمامه سوى أمل وحيد ليحظى بإعجاب الأب وهو فوزه بمسابقة الطائرة الورقية.
في حوارات الرواية، يُظهر حسيني أهمية ومحورية علاقة الأب بابنه، وكيف كان يسعى أمير ليكون مرئياً لدى والده.
الأب أساس ومحور في حياة أبنائه، كان كلّ هم أمير أن ينال حظوة لدى والده، أن يشعر أنه مصدر فخر واعتزاز لديه، وإنما كان الواقع عكس ما يتمنى، فلم يكن أمير يشبه والده في شيء، في شخصه في ميوله..
الأب صاحب المال والأعمال والمشاريع، كان يزعجه أن يرى ابنه «يدفن نفسه بين الكتب» ويقول في حوار مع صديقه: «لم أكن هكذا».
ويأتي صوت «رحيم خان» صديقه ليقول لكلّ الآباء:
«الأطفال ليسوا كتب تلوين. لا يمكنك أن تملؤهم بألوانك المفضلة».
وعندما يُصر الأب أنه في طفولته لم يكن «هكذا» يتهمه صديقه بأنه متمحورحول ذاته.
هي جدلية العلاقة التي يطرحها الحسيني عبر الحوار بطريقة سلسة وملهِمة عندما ينهي الحوار بقوله: «عليك أن تتركه يجد طريقه».
هذا التوق لدى أمير ليكون محور اهتمام والده، ربما لم يتخيل يوماً أنه سيحتم عليه أن يتجاوز صديقه «حسن» بخسة وضيعة رغم كلّ ما يجمعهما، في سبيل العبور إلى الطرف الآخر الذي سيجمعه بـ «بابا»!..
«لأجلك ألف مرّة ومرّة»، عبارة استهلّ بها الكاتب روايته ليعبّر عن مدى الإخلاص والوفاء والحبّ الصادق الذي يكنّه «حسن» لـ «أمير».
أن يحبك إنسان واحد فقط في هذا العالم بكلّ ما أوتي في قلبه من امتنان وغفران وتضحية يدفع لأجلك حياته دون تفكير أو حتى انتظار أي مقابل فذلك من أعظم نعم الله التي قد يحصل عليها أحدنا في هكذا عالم واقعي لا يظهر فيه سوى المصالح والقسوة، وهذا هو ما حصل عليه أمير والذي سيهرب منه طوال حياته حتى تعيد إليه الأقدار من جديد لتسديد ثمن ذلك الحبّ على عكس ما كان يخطط له ليعاود سيره في دروب وطنه بعد أن أبعده اللجوء.
يبقى أمير على تواصل مع أحد أصدقاء والده الذي هاجر أيضاً، وعند زيارته له في باكستان يخبره «رحيم خان» أنّ حسن هو أخوه، من علاقة «غير شرعية»!! ….
هذا يحدث بعد أن تقتل حركة «طالبان» حسن، ويبقى ولده «سهراب» في أحد دور الأيتام، فينصح رحيم خان أمير بالذهاب إلى أفغانستان وجلب ابن أخيه اليتيم.
وخلال هذه الرحلة يصور حال أفغانستان بعد عقود من الحرب، ويعود بذاكرته إليها كيف كانت قبل، وكيفية تصرفات طالبان، وما يفعلونه بالناس هناك من ظلم وجور، بل وحتى اعتداء على الأطفال كما حصل مع ابن حسن اليتيم «سهراب».
خاض أمير صراعه بين «الجبن» الذي اعتاده، وبين كلمات رحيم خان..
«ثمة طريقة لتعود صالحاً من جديد».
وقرّر أمير ألاّ يترك شخصاً آخر يخوض معركته هذه المرة..
يترك رحيم خان لأمير رسالة، يضيء عبر كلماتها على الصراع الذي مرّت به شخصيات الرواية، صراع الخير والشر، وكيف يخرج الخير الذي فينا بعد معاناة..
– الرجل الذي لا يمتلك ضميراً ولا خيراً، لا يُعاني.
– لكن ربما ترى يوماً ما أنّ والدك عندما كان يقسو عليك كان يقسو على نفسه أيضاً. كان والدك مثلك، روحاً معذّبة.
– هذا ما أريدك أن تفهمه، إنّ الخير، الخير الحقيقي في والدك وُلد من رحم الندم.
– تلك هي التوبة النصوح في رأيي.. أن يقودك الإثم إلى الصلاح.
– أعرف أن الله سوف يغفر في نهاية الأمر. سوف يغفر لوالدك ولي ولك أيضاً. وآمل أن تستطيع ذلك أنت أيضاً، أن تغفر لوالدك ولي ولكن الأهم أن تغفر لنفسك.
خالد حسيني في أحد حواراته الصحفية تحدث عن أن البشر عادة في عالمنا لا تؤثر بهم الاحصائيات وعدد الضحايا لتلك الحروب والمآسي ومرارة اللجوء كما يأمل دائماً من يعيشون جحيمها، وذلك لأنها تصل إليهم مجرد أرقام فقط يرونها أمامهم، وحدها القصص والحكايات منذ وجود البشر على هذه الأرض هي التي تجعل قارئها أو المستمع إليها يشعر بمعاناة وألم غيره مع أبطالها.
العدد 1119 – 8-11-2022