الفرد أي فرد هو معطى ثقافي ونتاج بيئة مجتمعية لها هويتها ومنظومتها الأخلاقية والقيمية، وإذ تشير الدراسات الابستمولوجية إلى أن الفرد يتشكل ثقافياً وذهنياً ومعرفياً بنسبة كبيرة في مرحلة الطفولة المبكرة، وحيث نقطة تشكله الثقافي في هذه المرحلة هي الأسرة التي يعيش فيها ويتلقى منها وفيها أغلب أنماط سلوكه، وبنيته المشكلة له ثقافياً وروحياً، ويتحدد موقفه من البيئة المحيطة به عبر مواقف سلوكية ومعرفية إلى درجة أنه يفسر الظواهر المحيطة به من خلال عملية التلقي أو الامتصاص تلك، وينطلق منها باتجاه الدائرة الـوسع، وهي المدرسة التي ينتظم فيها ليخضع لمنظومة معرفية وسلوكية تعكس إلى مدى كبير النظام المعرفي والقيمي الذي يفترض ـن تتبناه الجماعة السياسية التي ينتمي إليها، وهنا تبرز أهمية السياسات التربوية ودورها في تشكيل النسق القيمي للفرد والجماعة، وما يستتبعه من تشكيل مواقف عامة تجاه المحيط والبيئة، وما تستجره من سلوكيات عامة يفترض أن تنسجم إلى حد كبير مع الوجدان الجمعي ومنظومة الأخلاق العامة للمجتمع.
وإلى جانب هذين المعطيين الأساسيين في إطار بناء المنظومة الثقافية والقيمية التي تستدعي سلوكاً ومواقف على نحو ما يأتي دور الاستراتيجيات الثقافية والإعلامية والمنابر الدينية والحزبية وغيرها من أدوات يوفرها المجال العام والسلطة القائمة مضافاً إليها المجهود الثقافي للفرد وفق دائرة اهتمامه بهدف صياغة وبناء شخصية وطنية تحمل ملامح عامة تعكس النسق المعرفي والثقافي للجماعة السياسية الحاكمة وسعي لتشكيل وعي مجتمعي وسلوكي عام ينسجم مع توجهاتها وايديولوجيتها.
من خلال تلك الأدوات والوسائل والمنابر الرسمية وما يوازيها من قنوات ونوافذ أخرى مدنية وأهلية، وما يتيحه التطور الهائل لوسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي من فرص تتشكل إلى حد كبير مستويات الوعي العام وأنساقه ومواقفه، وهنا يبرز التحدي الكبير أمام السلطة السياسية والأحزاب في قدراتها على تشكيل نموذج ثقافة عامة مجتمعية ووطنية تشكل قاسماً مشتركاً أو حدوداً دنيا في إطار وعي وطني عام يشكل إلى حد كبير منظومة أخلاقية وقيمية ذات طابع وطني صرف تشمل إلى حد كبير أحد أهم ملامح ما يمكن أن نطلق عليه الهوية الوطنية للجماعة السياسية.
إن تناقض الخطابات وتعارضها أو تناغمها وانسجامها في معرض بناء الشخصية الوطنية كمنظومة هي أحد أهم أسباب نشوء حالات قلقة وغير متوافقة، ما يعني معرفياً وسلوكياً درجة عالية من الاستعداد للاختراق والانحراف على مستوى الوعي الشعبي العام باتجاه التطرف أو الخروج عن المنظومة الثقافية المراد تشكيلها وبناؤها، فعندما يتلقى الطفل في الأسرة نمطاً سلوكياً وسلسلة معارف ومنظومات قيمية لا تلبث أن تصطدم بنقيضها في المدرسة أو الشارع أو في مؤسسة حزبية أو منبر ديني أو ثقافي أو عبر وسيلة إعلامية في هذه اللحظة بالذات يبدأ الافتراق والصراع بين ما هو كائن وما يجب أن يكون وخاصة إذا كان البون شاسعاً بين تلك المنطومات وما يرافقه من غياب قاسم مشترك حقيقي بينها، وعلى الأخص المنابر الرسمية من مؤسسات تربوية وثقافية وإعلامية ودينية، وما يوازيها من مؤسسات ومنابر حزبية.
ولضبط عملية بناء الشخصية الوطنية بوعيها العام ومنظومتها الأخلاقية والقيمية التي هي الأساس والجوهر في بناء مفهوم المواطنة القائم على متقابلة الحقوق والواجبات ومن احترام البناء المؤسس للفرد والأسرة والجماعة الوطنية تأتي أهمية الحديث عن إحداث مركز وطني لرسم الاستراتيجيات الثقافية والتربوية أو مرصد وطني للثقافة والتربية تشارك فيه الوزارات والمؤسسات المعنية ببناء الشخصية الوطنية كمنظومة تندرج في إطار يتأسس ويتشكل من الخلفية الايديولوجية للجماعة السياسية بمكونها الوطني العام لا الحزبي الخاص إلا في حدود تماهيه مع العام الوطني والقومي أو على الأقل المساحات المشتركة بينهما ولا شك أن الوزارات والمؤسسات المعنية بذلك هي التربية والثقافة والإعلام والأوقاف وما يتبعها من منظمات ونقابات وهيئات رديفة، ولا شك أن إحداث مثل هذا المركز الوطني لرسم الاسترتيجيات الثقافية والتربوية يعد خطوة مهمة باتجاه وضع استراتيجية ثقافية هي أشبه ما تكون بقاسم مشترك وطني تستلهم منه الوزارات والمؤسسات المشار إليها مضامين خططها وأهدافها وما تسعى لتوطينه من مفاهيم وثقافة وطنية وغيرها من أهداف ترتبط بدورها الوظيفي في ظل احترام الدستور والقوانين النافذة، وبما لا يتعارض مع الوجدان الجمعي للجماعة السياسة السورية على تنوعها وثرائها وعلى قاعدة أن الدستور والقانون هما ضمير جمعي يعكس ويؤطر المجمل الكلي العام الذي يمثل النسق الأخلاقي والوجداني لجماعة سياسية تشكلت وتفاعلت تاريخياً على جغرافية معينة تعكس معادلة وطن ومواطن ؟