ثورة أون لاين – رئيس التحرير عـــلي قــاســـــــم:
لم يعد للنكتة السياسية بكل سماجتها مكان في سياق التحولات الأخيرة التي تموج بها السياسة الأميركية، والتي توّجتها عروض الوساطة التي قدمها الرئيس أوباما لنتنياهو بعد أربعة أيام من العدوان الإسرائيلي على غزة.
النكتة ليست في الوساطة الأميركية وما تعكسه الخيبة الواضحة من النتائج التي آلت إليها أحوال وظروف العربدة الإسرائيلية، بل تأتي من المفارقة التي تحملها الفكرة الأميركية بحدّ ذاتها حين تتحول واشنطن إلى وسيط، رغم أنها لم تعدّل في تموضعها بجانب إسرائيل ولا تفكر في تغييره بعد أن أبدت تأييداً ودون شروط لحربها العدوانية.
أن تصبح أميركا وسيطاً هذا يعني في القراءة المباشرة أن الأهداف الأميركية من العدوان الإسرائيلي لا تتحقق ولا تبدو في الطريق الذي تريده، وأن خلط الأوراق التي راهنت عليه عبر العدوان لم يسجل المسار الذي أرادته فيما تبدو الورطة الإسرائيلية في غزة أكبر من قدرة حكومة نتنياهو على تحملها، بعد أن صدمتها إلى حدّ بعيد خارطة الردّ لدى المقاومة.
وفي القراءة المتأنية التي تفضح أبعاد وأسباب وذرائع هذا العدوان تشير معطياتها إلى أن المعادلات والحسابات التي بنتها افتراضياً أميركا وإسرائيل لم تلامس الواقع، بقدر ما تحمل خيبة واضحة تكاد تقلب الطاولة رأساً على عقب.
وفيما تبدو المخارج مقفلة على سيناريوهات أسوأ بكثير مما هو قائم الآن، سارعت الإدارة الأميركية إلى إعادة الإمساك بخيوط اللعبة عن طريق عرض وساطتها لتطويق الآثار الكارثية المحتملة ومن كل الاتجاهات، وخصوصاً لجهة التداعيات الناتجة عن التصدعات المحتملة في جدار الوكلاء الإقليميين، وهو ما دفع الرئيس أوباما للتدخل، وأن يتداعى الدور الأميركي من موقف المساند والمدافع عن إسرائيل إلى مرتبة وسيط.
المراجعات القائمة ليست حصرية في ظروف المواجهة القائمة بقدر ما هي في رسم الإحداثيات الموازية لها على خطوط التقاطع مع ما يجري في المنطقة، ولاسيما تلك المرتبطة ببنك الأهداف المحدد من العدوان الإسرائيلي، حيث تشير أروقة الاستخبارات الأميركية إلى متغيّرات في الميدان السياسي على امتداد المنطقة قد يسترجع كل ما حققته غزوات «داعش» من مكاسب من الكفّة الأميركية، وربما يخلط الأوراق بطريقة معاكسة لكل الافتراضات الأميركية بما فيها ملامح الفوضى القائمة لتمرير المشروع الأميركي بنسخته الجديدة.
اللافت أن أميركا الباحثة عن دور وسيط، تنازعها الرغبة ذاتها أدواتها التقليدية التي حيّدت في الأشهر الأخيرة، وتجد فيها فرصة إضافية للعودة إلى الأضواء على حوامل العدوان الإسرائيلي لتقديم خدماتها، وهذا ما قد يزيد من حرجها، ويدفعها إلى التريث في رمي أوراقها المؤجلة لحقبة أخرى.
الأكثر من هذا وذاك ما يتم تداوله في أروقة الحسابات الأميركية المستجدة عن انقلاب محتمل ووارد في لائحة التحالفات التي أنشأتها الإدارة الأميركية على عتبة ربيع الفوضى المتنقل، وملامح إعادة تشكيل ينسف جذور ما تحقق، ويلغي من الوجود أي إمكانية لتحقيقه لاحقاً أو لاستدراكه، وهو ما يفسر مسارعة الرئيس أوباما ليعرض وساطته في أول تدخل مباشر له، وإن كان النفي أو الرفض الإسرائيلي لها عاملاً إضافياً من عوامل الإثارة في النكتة السمجة في عالم السياسة المتداولة هذه الأيام.
الفارق المتحرك لخلق مساحات كبرى من النفي، والنفي المضاد، ترسم ظلالها على جذر العلاقة الأميركية الإسرائيلية، وإن كان يتجاوز خطوط التأزم بين واشنطن وإسرائيل ويلامس فروق الحسابات المطلوبة في هامش التحرك الأميركي الأخير في المنطقة، والعودة إلى سياسة الخرائط الإثنية والعرقية والطائفية التي استعجلت أميركا في مطابقتها على مقاس ومنظور الرغبة الإسرائيلية، لتكون الممر وجسر العبور لتصفية القضية الفلسطينية، وخصوصاً بعد الفشل الأميركي في فرض التسوية على أنقاض الوضع العربي وفق المنظور الإسرائيلي.
حين يصبح رئيس أميركا بمرتبة وسيط في مسألة إسرائيل طرف فيها.. ثمة متغيّر قائم، وثمة معادلة إضافية لم تكن واردة في الحسابات الأميركية قد تشكلت، أقلها أن حصاد حقل العدوان لم يطابق بيدر أطرافه، وأن معادلة العدوان لم تعد صالحة للتداول دائماً كما كانت العادة، والأهم أن العصا الإسرائيلية وأوراق استخدامها لم تعد رصيداً استراتيجياً تلجأ إليه أميركا لتدارك أخطائها أو لإنقاذها من ورطة خياراتها السياسية وممارسات دبلوماسيتها المتعرجة في المنطقة.
a.ka667@yahoo.com