الملحق الثقافي-دلال إبراهيم:
وهو في التسعين، وعقب ستة عشر عاماً من الصمت الروائي ينشر الروائي الأميركي كورماك مكارثي، روايتين في توقيتين متقاربين – أواخر العام المنصرم – وهما رواية (العابر) وملحق لها هي رواية (ستيلا ماريس) مرة أخرى يفاجئنا مكارثي بجرأته وتفرده بين أدباء عصرنا، عبر تلاعبه بالأعراف المسيطرة. وكعادته التي دأب عليها، يجمع مكارثي، في رواياته الملحمة مع الجوهر مع المتاهة وأيضاً الهراء. في روايته (العابر) يسلك مكارثي طريق الجنوب الغربي من الولايات المتحدة، ويغطى فترة السبعينيات والثمانينات من القرن الماضي مع تحويلات عبر منها إلى هيروشيما وناغازاكي، وكذلك فترات أخرى مظلمة من التاريخ. رواية سوداء يعود فيها الروائي الأميركي إلى المسار الهزلي، حول قصة حب يتم سردها في ذكريات الماضي وتعرجات يسرد فيها العلاقة بين رجل وأخته، عالمة الرياضيات المنتحرة.
روبرت ويسترن غواص إنقاذ: يتقاضى أجرًا لإحضار السفن والبضائع وأحيانًا البشر من الأعماق. في خريف عام 1980 ، تم إرسال ويسترن، الذي كان أيضًا سائق سيارة سباق سابق، وعالم فيزياء سابق في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا و»أفلاطوني رياضي» في مهمة تفتيش مقصورة طائرة تحطمت في نيو أورلينز. على متن الطائرة، تسع جثث. لكن لا يوجد صندوق أسود: اختفى مسجل الرحلة من قمرة القيادة. ولم يكن ذلك الشيء الوحيد غير الطبيعي. حيث وبسرعة كبيرة يتم الاتصال بـويسترن، من قبل شخصين مزعجين: أحد الركاب مفقود بين الجثث، هنا يصبح ويسترن مراقباً ومتعقباً وما عليه سوى الهرب.
ويتناوب سرده مع التأملات الهذيانية لأخته أليس، وهي الموهوبة مثله بالرياضيات، لكن من الواضح أنها عبرت إلى الجهة الأخرى من المرآة. حيث بقي ظل والدهم يخيم على أسئلتهم الميتافيزيقية: ففي الأربعينيات من القرن الماضي، عمل والدهما في مختبر أوك ريدج بولاية تينيسي لتصنيع القنبلة.
بينما يركز في روايته (ستيلا ماريس) المتممة لروايته (العابر)على سرد حياة امرأة عبقرية في الرياضيات، هي أليشا ويسترن، التي خسرت مكانتها في العالم الأكاديمي في الوقت ذاته الذي فقدت فيه تماسها – الذي طالما كان هشاً – مع الواقع. كانت أليشيا بارعة في موضوع التوبولوجيا الرياضياتية، وتبادلت المراسلات مع عالم الهندسة الجبرية الأكثر شهرة عالمياً في القرن العشرين، ألكساندر غروتندايك، ثم انتهى بها الأمر لتصبح حطاماً بشرياً تتناهبه الهلوسات والأفكار الانتحارية. الرواية بأكملها هي مشهدية حوارية بين شخصين، مكتوبة في سياق سبع جلسات حوارية بين أليشيا – التي تسعى للتعافي من اضطراباتها – وطبيب مختص بعلم النفس المَرَضي. تجري الحوارات السبع في مصحة نفسية اسمها (ستيلا ماريس) تقع بولاية ويسكونسن الأميركية، تديرها جماعة كاثوليكية. عوملت أليشيا في المصحة باعتبارها مريضة بالفصام الارتيابي، وكانت إقامتها في المصحة خلال تلك الجلسات هي الإقامة الثالثة لها.
نشأت أليشيا في بلدة لوس ألاموس التي تبعد قرابة الثلاثين ميلاً من موقع معهد سانتفيه، حيث عمل والدها فيزيائياً في مشروع مانهاتن، ثم بعد نجاح تصنيع القنبلة الذرية في ذلك المشروع، تلبسه ندم دام كل العمر، بسبب مساعدته في صناعة أول سلاح ذري في العالم. تعلمت أليشيا كيفية حل المعادلات الرياضياتية بمعية أبيها في عمر مبكر من حياتها. تقول بشأن ذلك: «كل ما أستطيع أن أخبرك إياه هو أنني أحب الإعداد. أحب أشكالها وألوانها وروائحها وحتى طعومها!!. لست أرغب أبداً في إيلاء أي اهتمام لما يقوله البشر بشأن الأشياء التي في هذا العالم».
عمل الكاتب كورماك مكارثي في معهد سانتفيه الفيزيائي(صانع العقول) لمدة عشرين عاماً. ويكتب عنه صديقه الصحفي في الغارديان ريتشارد وورد وارد عن سبب توهج رواياته تلك بالتفكير العلمي: كانت رفوف مكتبته في المعهد تزدحم فيها مخطوطات لكتب أصدقائه من العلماء من مختلف الجامعات الأميركية، ولا تضم البتة أي رواية فائزة بجائزة البوكر. كانت تلك الكتب هي مركز اهتمامه. على الرغم من أن رواياته التي نشرها بعد انضمامه لمعهد سانتفيه خلت من أي أثر لقراءاته الغريبة التي كان يسعى للتشبع بها بنهم. مثل روايته (لا وطن للمسنين)أو (الطريق) أو سيناريو فيلم (المستشار) الذي أخرجه ريدلي سكوت.
وبات واضحاً أن مكارثي كان يختزن كل تلك المادة التي إنكب على تعلمها وتخزينها في ذاكرته لكي يوظّف الشيء الكثير منها في روايتيه العابر وستيلا ماري. وستيلّا ماريس، تعد الأكثر توظيفاً صريحاً لنتاج سنوات مكارثي التي قضاها في سانتفيه.
ولكن، تجدر الإشارة إلى أن مكارثي حافظ في روايتيه تلك على خطه في هوى التوحش، حيث يهيم بحثاً عنها في شتى الأماكن والميادين والكائنات في الحيوانات والمناظر الطبيعية. ويقول عنه صديقه: يعبر مكارثي عن حساسيته ضد العنف والقتل والتوحش البشري بالكتابة عنهم. عندما تقف البشاعة أمام وجهك ستنفر منها حتماً إن كان في حوزتك بعض من إنسـانية. هذه إحدى غايات مكارثي الأساسية كتابياً، وهو الرجل الذي لا يكترث بعدد قرائِه ولا باستثارة حصيلتهم من الدهشة والإعجـاب، يستهدف تطوير ما يستطيع أن يطوره في جاهزية القارئ على التغيُّر إلى الأفضل فقط. لن تجده موضوعياً وأنت تقرأ انحيـازه لرعاة البقر الكاوبوي في العديد من أعماله. لكنك ستجده عبقرياً وأنت تستخرج الجوهرة من الحوارات بين أبطاله الخيِّرين والأشرار.
منذ باكورته «حارس البستان» (1965) أسّس مكارثي لرؤية أبوكاليبتية تميل إلى إغفال نصف البشريّة، أي النساء. تلافى الكتابة عن الأحياء والشجون العائلية، وتمسك هذا الراديكالي المحافظ، بإيمانه بقدرة الرواية على التعامل مع شتى الاهتمامات الإنسانية الأخرى. مكارثي لم يكتب عن الجنس، ولا الحب والقضايا الداخلية. وقائمته من أولئك الذين يدعوهم «الكتّاب الجيدين» تخلو من أي كاتب (لا يتعامل مع قضايا الموت والحياة). وبالتالي يُصعب تقويم أدبه الذي وصل إلى مستوى السؤال اللاهوتي، والشكوى الميتافيزيقية. في روايته (الطريق) التي تحولت إلى فيلم، يرغمنا على طرح أسئلة وجودية نتجنبها، وارتياد أماكن لا نرغب بارتيادها. من خلال رصدها أفول الحياة عن كوكبنا، وانتشار أكلة لحوم والعصابات المارقة.
تقول سيرته الذاتية: إن مكارثي انتفض ضد عائلته المترفة في مرحلة مبكرة من عمره، وفضل الاقتراب عبر اللغة من حيوات معدمين وهامشيين يلهثون خلف»أحلامهم الشقية» وكانت النتيجة بقاء مكارثي بعيداً عن فردوس محدثي النعمة في تاريخ الأدب الحديث. وهذا الاختيار دحض معايير السوق التي أقعدت الكاتب طويلاً في كواليس النُخب المؤثّرة، وحولته إلى «حالة» بعيدة المنال لغاية صدور رواياته «ثلاثية الحدود» التي تتألف من: «كل الجياد الجميلة» (1992) تحولت فيلماً سينمائياً حظي باهتمام النقاد، و«العبور » (1994)، و«مدن السهل» (1998). وقد جاهدت تلك الروايات الثلاثية، عبثاً، لتخطي عتبة الخمسة آلاف نسخة. لكن الأرقام لم تُؤرق يوماً مكارثي المفطور على المعارضة. هو لم يأبه لامتثالية أقرانه، بل نبذ القوالب الجاهزة ومَقت الوكلاء الأدبيين والمهن الثابتة، والقراءات الأدبية العلنية، وبدعةَ أن يذيل اسمه مقدمات الكتب الرائجة. لم يغره البتة الثراء والغنى، وهذه سمة يبدو أنها أزعجت كل زوجاته السابقات. «كنا نعيش في فقر مُجمَل» هذا ما ترويه عنه الزوجة الثانية، آني ديلايل، مضيفة: منذ مايقارب ثماني سنوات كنا نعيش في حظيرة ألبان خارج نوكسفيل. «كنا نستحم في البحيـرة» قالت مع بعض الحنين إلى الماضي «اتصل شخص ما وعرض عليه ألفَي دولار للحضور والتحدث في الجامعة عن كتبه. قال لهم أن كل ما يمكن أن يقوله موجود في صفحات تلك الكتب. إذاً علينا أن نتناول الفول لأسبوع آخر».
ولكنه كسب في المقابل مكانةً على حدة. مكانة تجاهلت البعد الترويجي لاسمه، ليلتحق «ابن العائلة» البورجوازية بالأقلام الأميركية الغامضة التي يسكنها الهم الثقافي مع اقتنائه ما يزيد على سبعة آلاف كتاب. آلبرت إرسكين صاحب دار راندوم هاوس الشهير، محرر كتب مكارثي لعشرين سنة يعترف «هناك مشاعر أب وابن» ويردف بخجل وهو يقول الحقيقة «نحن لا نبيع أيٍّ من كتبه».
العدد 1144 – 16-5-2023