إثر نشر العمود الصحفي الذي حمل عنوان :(لغة الداد) قبل أربعة أسابيع، والذي انتقد ظاهرة ترقيق أحرف اللغة العربية عند بعض المتحدثين بها، وفي الكتابة على ال(فيسبوك)،وكذلك استعمال الأحرف اللاتينية في الكتابة العربية، رغم عدم قدرتها على ذلك. إثر هذا علق أحدهم على العمود بالقول: إنه ليس مهماً أن تكون اللغة صحيحة أو خاطئة، المهم أن يكون الإنسان صادقاً وطيباً بالحقيقة لا بالمظهر!!
الطريف بالأمر أن هذا الشخص اختار لصفحته صورة له يبدو فيها وكأنه يقرأ في كتاب،وأقول يبدو دون أن أجزم لأني لم أجد في حديثه ما يوحي بأنه يقرأ أصلاً، ولم أفهم العلاقة بين ما يطلبه من صفات شخصية عند الذي يقرأ له، وصحة اللغة التي يكتب بها، ولكنني أعرف بالمقابل حالات كثيرة من الإدعاء الثقافي والمعرفي،وألحظ – مثل غيري – ظاهرة جديدة تنتشر بين أشباه الأميين الذين وجدوا في ال(فيسبوك) فرصة للتعبير عن أمراض الجهل النفسية، والذين يسيرون كقطعان وراء مقولات لا تقبل النقاش، لأنها لا تصمد أمام النقاش، وتتلخص هذه الظاهرة بالانتقاص من قيمة الثقافة كفعل وحاجة إنسانية، وقد عبر واحد من هؤلاء عن (فكره) بالقول: أنا لا أؤمن إلا بثقافة الشارع!!
ليقل الجهلة ما يقولون، ولا يهم إن أعجبهم ما سيلي أم لا: لا يعادي أحد الثقافة إلا ويكون عدواً لكل الناس، ولا يعادي أحد لغة قوم إلا ويكون عدواً لهم،والتاريخ يحفل بحكايات الغزاة الذي سعوا كل جهدهم لمحو لغة، وبالتالي ثقافة وذاكرة، الأقوام التي غزوها، لمعرفتهم أن هذا هو السبيل الأضمن لا للهيمنة عليها فحسب،وإنما لفنائها وتلاشيها.. و لغتنا استطاعت الصمود – ولا تزال – في وجه محاولات شرسة من هذا النوع، وإذا كنا في بعض الأحيان ننتقد تأخر مجامع اللغة العربية في إيجاد التعبير العربي لجديد ما في الحياة، أو في إدخال هذا الجديد في صلب لغتنا، فإن ذلك لا ينفي سعة ما تقبلته لغتنا من تعبيرات ومصطلحات وتركيبات جاء معظمها بفعل الترجمة،مع أن بعضها لقي تحفظاً شديداً من علماء اللغة قبل بضعة عقود.وللدلالة والطرافة أورد لكم مقتطفاً من مقالة للأستاذ محمد كرد علي رئيس مجمع اللغة العربية العريق، نشرها عام 1946 في مجلة المجمع..
يكتب الأستاذ كرد علي منتقداً ما أدخله المترجمون من تعبيرات على اللغة العربية يراها غير سليمة:
« لا أكتمكم يا سادتي أن سمعي لم يتألم قط أكثر من لفظ أو إضافة جاءنا بها المشتغلون بعلم الترجمة. فأتونا بألفاظ وتراكيب لو قلنا لأهل عصر زهو العربية بالطلاق والعقاق أنها عربية، ما صدقوا ولا آمنوا. ». ثم يسرد مجموعة التركيبات الجديدة التي يراها دخيلة على اللغة العربية،أختار لكم بعضاً منها: «النزعة الواقعية،القوة الوجدانية،الذاتي، الموضوعي،الإقليمي،الفكرة الأساسية،الطريقة الاعتباطية، السبب المباشر، من حيث الأساس،تفرض نفسها على اتجاهات السياسة،ضرب الرقم القياسي،النزعات السياسية السائدة،عمله على ضوء كذا،رفع رأس أمته عالياً،يحيطونها بهالة من الرهبة،استغل الموقف، تجري في جو يسوده الود،الوضع الحاضر،الوعي القومي،سر المهنة،فقيد الواجب،التربية المثالية،المجال الحيوي،المثل الأعلى،الشخصيات البارزة،السوق السوداء،الجهود الجبارة، الحل الحاسم،حقل الأدب والعلم،الروح الوثابة،أتون الحرب،الرغبة الملحة، وأخيراً تمّ الشيء الفلاني بحسب الخطة المرسومة،رجل الساعة،الأهداف القومية،حركة خاطفة،الروح المعنوية المتوثبة، ظهر على مسرح السياسة،يضحي على مذبح أغراضه،طلب يد فلانة، ذر الرماد في العيون… »..
ويتابع الأستاذ كرد علي على هذا المنوال فيسأل:
« ألا تصابون بالبرداء وقاكم الله شرها، إذا سمعتم مترجماً يقول(أمثال تلك التركيبات)….. » ؟
نستطيع الإجابة اليوم أن أحداً لن يصاب بالبرداء أو غيرها، لأن هذه التعبيرات صارت من صلب لغتنا،يستخدمها نخبة اللغويين،ومثلها الكثير من التعبيرات التي جاءتنا بعدها من لغات غير لغتنا لتؤكد حقيقة أساسية يحاول بعضهم تجاهلها، لسبب أو غاية، وهي أن العربية لغة قادرة على الاستجابة لمتطلبات الحياة وتطورها..وأن لا عذر لمن لا يحسن استخدامها من الناطقين بها..