الملحق الثقافي- د. مصطفى الكيلاني:
لعلّ الموسيقا، هُنا، تختصر بكثافة تفاصيل هذا التاريخ الإنسانيّ، منذ لحظات الوعي الأوّل الذي استحال بالتطوُّر إلى وعيٍ للذات، حسب العبارة الهيغليّة في «فينيمونولوجيا الفكر/الروح» لِيَنْجَرَّ عن ذلك نُشُوءُ الحاجة إلى «الاعتراف»، والصراع من أجله، وخطر الموت الذي يتهدّد جميعَ الإنِّيّات في كُلِّ حين.
إنّه القَتْلُ، والقَتْلُ المُضادّ، أو مُشكِلُ الاعتراف في صراع التّغالُبِ بمدلول التاريخ التراجيديّ كما تَمَثَّلَه هيغل فلسفةً، ومثلما ارتأه هادي دانيال شِعراً في «سرحان بشارة سرحان» الفلسطينيّ الأصْل، قاتل الرئيس الأميركيّ السابق روبرت كينيدي (1968)، إذْ يستعيد الشاعرُ الحدَثَ، ويتمثَّل السبعينيَّ في زنزانته، وفي ذلك ما يجعلنا، من موقعِنا القِرائيّ، نستطيع التدليل على ديالكتيك صراع التّغالُب حيث لا حدّ للقوّة نهائيّاً، كما لا حدّ للوهن، كقوّة «العبد» الأقوى إمكاناً من قوّة «السيّد» في التّمَثُّل الهيغليّ لكُلٍّ من القوّة والوهن.. فما أقدَمَ عليه المناضل الفلسطينيّ يُبرهن لدى هادي دانيال على أنّه لا قُوّة قُوَيّة دائمة، كما لا معنى للوهن الدائم، وإنّما مآل القوّة في هذا الاتجاه أو ذاك هو الاضمحلال، مثلما للوهن أحكامُه الخفيّة وإمكان اندفاعه إلى الأقوى قُوّة.
وَمُحصّل الحكمة بالقوّة والوهن ماثلٌ في مدلول الموت ذاته الذي هو مآل الجميع، ونقطة التقاء الأقصى قُوَّةً بالأقصى وهَناً، كأن تستنزف القُوَّةُ قُوَّتَها بحركة الاندفاع إلى الأقصى عُدواناً وسعياً جُنونيّاً (جُنُون الرّغبة القاتلة) إلى نَفي الآخَر، وكأن يستقوي الوهن بوهنه مُتَحَدِّياً الموت، مثل كائن ضعيف قادرٍ على مُغالبة وهنه، فيقهر بذلك القويَّ مُستعيناً بديمومة الزمن و مداومَته على الفعْل بالمُقاوَمة ومُراهنته على الاستمرار في البقاء إلى لحظة الوصول الأخيرة حيث بالإمكان تغيير موازين القُوى وتحقيق النصر، كسبّاقٍ بارع عنيد يُتْقِنُ فَنَّ تصريف قُوّته بكامِل المسافة ليضمنَ الوصول إلى حيث مُبْتَغاه الأخير.
بالموت، إذَن، يُمكن للحياة أن تكتسِب معنى، لأنّ أُفُق المعنى بالحياة هو الموت أيضاً.. لقد أدرك الشاعر جوهر هذه الحقيقة حينما خاض تجربة المرَض وأقام في موقع مخصوص نادر عند أقصى الحياة:
«صباح الخميس الماضي أعلَمَتْني المُمرّضة
التي بامتعاضٍ أجْرَتْ على أنفي اختباراً سريعاً
أنَّ جُيوشَ كوفيد التاسع عَشَر قد غزَت جَسَدي
وانتهى الأمْر..» (ص87).
فالموت، هنا، ليس الهلاك، وإنّما هو من الحياة وإليها، إذْ لا يطفو معناه على السطح في دفق الحياة المعتادة، بل ينكشف بوعي حادّ عند مُقارَبَة لحظة الصِفر حيث انتفاء الوُجُود تماماً، وآنَ انتقال الكائن- الإنسان إلى العدم المحض.
فَبَيْن العدم المحض والنفي السالب وُجوداً ينكشف بعضٌ من دلالة ما بين الموت والهلاك.. وإذا قصيدة «غداً نغتسل من رائحتك بالشمس والبحر» تجربة خاصّة عاشها هادي دانيال وأرّخَ لها بخالص إنّيّته (06/07/2022)، وبعدَدٍ من التفاصيل تدليلاً على مكان (البيت) وأحداث، كالعزْلة الاضطراريّة منذ اكتشاف إصابته بالكورونا، ورعاية «الحبيبة» له، وانشغاله بالكِتابة والقِراءة، واستماعه للموسيقا.
ولتجربة المَرَض المذكورة أهميّة خاصّة في وعي الشاعر، بأنْ فتحت بصيرته على حقيقة الوجود ذاته بمخصوص الإنّيّة (إنِّيَّته) التي أدرَكَت بالحِسّ والحدس معنى أن يهلكَ الإنسانُ بَعْدَ مَوْت، أي عند تفاقُم إحساسه بالموت حياةً، كتمييز موريس بلانشو(Mourice Blanchot) بين دلالتَيْ اللفظَيْن: الموت بالحياة، والهلاك بانقطاعها.
لقد مَثَّلَتْ تجربةُ المَرَض الواردة اعتراضاً دلاليّاً في مسار قصائد المجموعة، وِقْفَةً مؤقّتة استثنائيّة للذاهب بعيداً في طريق الحياة، الرافض للاستكانة، فكان العَوْد إلى الوجود بين عَزْفٍ وَنَزْف، إذْ للموسيقا حضورها الدّالّ المرجعيّ الناتج عن الاستِماع، أيّامَ المَرَض، رُبّما.
لكنّ «القيثار» وذكرى «لوركا» و»فرانكو» القاتل وأصابع «شام» العازفة، ودلالة الدم النازف ترسم من جديد صورةَ العالَم الجريح وشقاءَ الكائن الإنسان بالسجّان والسجين، وبالقاتل والقتيل، أو بالقاتل يُسرّع هلاكه باغتيال الآخَر.
هو الخدَر، الانتشاء في قصيدة «الصداع بكأس الظهيرة» بالصعود استيهاماً «إلى أعلى الجبل، والنزول إلى الميناء، وغابات الصنوبر والينابيع والماء الأجاج وآخر الصحراء، والمطر المُضاء بالنيون، والكوخ، والشجرة العارية الأغصان، والشمس تنزلق خلف البحر، يلي ذلك ليلٌ وجسَدُ امرأة مَخفيّ عدا نهدها العاري..»: خَدَر لا كأيّ خَدَر، وانتشاء لا كأيّ انتشاء في لحظةِ حلمِ يقظةٍ جميل أو هذيان حُمّى وصداع ناتج عن «كأس الظهيرة».
كذا يمضي الشاعرُ في كتابة حالاته النادرة، كالمرَض سابقاً، والانتشاء لحظةَ «صداع الظهيرة»، وكالنفي في قصيدة «دَمُنا في كؤوسنا» يذهب بعيداً في أداء عدميّته بالمزيد من الإلغاء: «لا عِلمَ لِي…لا نَجْمَ لِي…لا يَدَ لِي…لا فَمَ لِي…لا قلبَ لِي…لا نبضَ…لا وقتَ…». فهذا النّفي المُكثَّف المُتكرِّر يشي بحال الشاعر، وقد انتهى به وعيُهُ الشقيُّ الحادّ إلى اللا شيء تقريباً، بذابل وثوق لا أدري، عند الإغفاء ورؤية القبر الخاطفة «يفتح شدقيه» ثُمَّ «ينغلق مؤقتاً» والمكان حانٌ ب»رفوف وقوارير وكؤوس…»، ليحيا الشاعر بذلك لحظة انتشاء مُوجِع لِما يتراءى له في الأثناء من عَدَم وألَم وَنَدَم…
يزدحِمُ عالَمُ الشاعر بالهواجس والكوابيس والأوهام والأحلام والرغبات التي عادةً ما تصطدم بوقائع شديدة وتنقطع، وبالتهيُّؤات والآمال والآلام، فتُوغِلُ الكِتابةُ في اللاوثوق بضُرُوبٍ شَتّى من النفي، ولا ملاذَ لها في زمنيّةِ القصيدة المصطدمة بواقع الاستحالة عدا حُلم الكِتابة بالموسيقا، وبالمُشْتَرَك أداءً بالعَزْفِ والنّزْفِ، أو الاستماع إلى العزف النازف والتفاعُل معه بنزْفٍ عازِفٍ شِعْراً، وبالأبعد من السماع أو بالمُتشكِّلِ في عميق الدّاخِلِ الجوانيِّ استلهاماً، كالاستلهام من «فاغنر» بلا «بيانو» للإقامة إحساساً بالقريب من الموت، وهي حال نادرة في لحظة استثنائيّة خاطفة عارضة يحياها جميع البشر، ويحرص الفلاسفة والمُبدِعون بمختلف الفنون على تثبيتها فكراً أو تسكينها فعْلاً إبداعيّاً، وهي في المُحَصَّل حال- لحظة نادرة، كأقصى اللذّة حِسّاً، وكفرْط الانتشاء روحاً، وكإدراكِ أقصى وعي الموت، ولا هلاك بَعْدُ:
«حياءً سأدخلُ قبري
وأجعَلُ مِن كَفَنِي شاشةَ الذاكرهْ
لسْتُ ميتاً، ولكنّني خَجِلٌ مِن مرايا الوُجود» (ص109).
هي الإقامة، إذَنْ، على التّخُوم، بدلالة الأقصى حياةً، كما أسْلَفْنا، وبأقصى وعي الموت حياةً كذلك.
إنّ فائقَ الإحساس بالموت في هذه المجموعة الشعريّة هو المُحَفِّز الأوّل على الكتابة، حسب تقديرنا.. وبهذا الإدراك المستفَزّ بالموت المؤجَّل الوشيك يتبدّى لنا إبدال حادث في وعي كتابة القصيدة لدى هادي دانيال، وقد تتبّعْنا مسارَ تحوّلاتها العام منذ أوّل نصّ وإلى هذه النصوص.. وجديدُ هذا الطور حيث تتنزّل مجموعة «كأوركسترا ينتف المايسترو أجنحتها» هو، كما أسْلَفْنا، استقدام الموسيقا إلى الشِّعْر، وذلك بالمعزوفات المُسْتَمَع إليها، وَبِسِيَرِ عَدَدٍ من الموسيقيِّين العالَمِيِّين، كما لسيمياء الأداء التشكيلي حضورُهُ أيضاً حيثما تتراجَع بلاغة الحرف قليلاً أو كثيراً لِتُفْسِحَ المجال لبلاغة الصورة المشهديّة التي بالإمكان تَمَثُّلُها لوحةً سِرياليّة أو انطباعيّة بباذخ الخطوط والمُنحنيات والطيّات.. وإذا الكتابة الشعريّة بهذا المزْج المرجعيّ بين عَدَد من الفنون براديغمات مختلفة تؤالف بين فائض القول والبوح وعميم التشكُّلات المشهديّة الطّيفيّة ومحاولات تجسيد الألحان سماعاً حينيّاً مباشراً واسترجاعاً بذاكرة دامية وتاريخ تراجيدي غارق في السواد والدّمويّة.
إنّه مَوت الشاعر المؤجّل كما يراه فرديّاً في مَواطِن، وغيريّاً لا يقطع مع إنّيّةِ الشاعر في مَواطِن أخرى، كالموت الرّمزيّ، مَوت الآخَر/الآخَرين بدلالة النّضال الفلسطيني، كالمتَضَمَّن في قصيدة «ظهور فدوى طوقان بانفلاق صخرة في عيبال»، كأن تحضر ذكرى استشهاد المناضل الفلسطيني إبراهيم النابلسي واسترجاع رمزيّة الشاعرة «فدوى طوقان»، ونابلس المكان الرّمزيّ الذي أنشأ كُلّاً من الشاعرة والمناضل شهيد المقاومة الفلسطينيّة، وإذا نابلس أيقونة خاصّة تختصر بكثافة ملحمة النضال الفلسطيني. وإذا وَعي الموت يتغيّر مِن حالٍ مبهَمة تشي بالكثير من القلق المُوجِع حينما أدركت إنّيّة الشاعر خَطَرَه الدّاهم بخوض تجربة المَرَض، وعند الإحساس الحادّ بخواء الوجود، إلى حال من المعلوم المجهول أو المجهول المعلوم، لحظة التصريح بخيبة الأمل:
«مَن يُفكِّر مثلي
بالدِّماءِ التي ذَهَبَتْ عَبَثاً
بالشّعارات تُشرى إلى هذه اللحظة العبثيّةِ
بالدَّمِ، مَن؟
بالوُجودِ الذي يُشبِهُ الزّوْرَقَ الوَرَقِيَّ رَسَمْنا عليهِ
استغاثاتنا
وحلمْنا بأنّه مركبُ نُوحٍ دَخَلْناهُ نَهزأُ مِن
فيضان العَدَم» (ص121).
كذا الموصوف الشِّعري: وَطَنٌ مُدَمَّرٌ وَشَعْبٌ مُعَذَّبٌ، وَخَيْبَةُ أمَل، وعَدَم أو خواء مُستبدّ، واستعانةٌ بالكأس والموسيقا اتخذت لها استعارات لحظة، بل لحظات الكتابة، بكثيف دلالات النفي، العَدَم، المَوت إلى حدّ الهلاك المؤجّل بمدلول الزّمَن القادِم:
«الأوركسترا
هياكل عظميّة (بين أضلُعِها رَماد الكمنجات وعلى جماجمِها آثار ضربات البداية)؟» (ص133).
آخر العزْف أو آخر النّزْف هو سمفونيّة الحياة «على طريق العَدَم»: «لا عصافير في الصحراء».. وكذا آخر المشهد فهو خراب مستفحِل «بريش دامٍ في قفص من قُضبان المايسترو المفقود» (ص133)، وآخِرُ المشهد الموصوف هلاكٌ عميم، والمُتَبَقِّي منه «هياكِل عظميّة، ورماد الكمنجات، وآثار ضربات البداية، وكمين غَرَقٍ محتوم…»، وبعض من صُورة عبثيّة لِوُجود هالك:
« أقدامنا تحثّ الخُطى على طريق العَدَم المَزْهُوِّ
بجنرالاتِهِ الذين ازدَحَمَت ياقاتُهُم المُنَشّاةُ
بأوسِمَةٍ مِن عظامِ العصافير
العصافير التي غَدَرَتْ بها واحاتُ الصحراء» (ص134).
فَلَنا أن نجزمَ أخيراً بأنّ قصائد « ينتف المايسترو أجنحتَها كأوركسترا « تُمَثِّلُ لوناً جديداً مُسْتَحْدَثاً مِن كتابة القصيدة بروح هادي دانيال، لوناً مُتفرّداً مُختلفاً عن سابِقِهِ، لوناً يُعيدُ للحظةِ ألَقَها، وللحظة بمخصوص وجودنا الرّاهن، لِتَنْفَتِحَ إنّيّةُ الشاعر على تراجيديا العالَم، عالمنا اليوم، هذا الذبيح الجريح المُستباح بأعنَف حالات القَتْل واقِعاً ومَجازاً.. ولأنّها اللحظة (لحظة الشاعر، ولحظة الجميع) حابسة حبيسة هالكة مُهلِكة استهلاكيّة فقد تَوَسَّلَ ذكاءُ الشاعر الخِبْريّ، بَعْدَ تجربة طويلة مِن إنشاء القصيدة، بلغة أخرى غير اللغة، وبمجاز أبعَد مِن مجاز اللسان، هو الموسيقا التي هي لغة انجِراح العالَم منذ الأزَل ليتماهى لوغوس الكلمة ومُتَمَثَّل اللحن (النّغَم) شِعْراً.
لقد أمْكَنَ للشاعر بالعَزْفِ النّازِف والنّزْفِ العازِف شِعراً مُقارَبَةَ لحظتِهِ/ لحظاتِهِ النُّقْصانيّة، مثلما تفَطَّنَ لِمَعنى الهشاشة وأدرَكَ «فَنَّها»، أي أدركَ مَعْنى أن يموت الإنسان قبْل أن يموت (أن يهلكَ)، بفائض الرغبة، رغبته في الحياة، ويتحدّى العَدَم وُجُوداً مُتبَقِّياً، وبالانتشاء، أقصى حالاته، بما يصل ولا يُفارِق بين الحياةِ والشِّعْر.
العدد 1147 – 13-6-2023