الملحق الثقافي:
ينعم القارئ الآن بالكتاب قديمه وحديثه ويصل إليه أينما كان وفي دمشق قبل غيرها من المحافظات السورية كانت أولى لبنات دور الكتب والمكتبات العامة.
انتبه إلى هذا الأمر أدباؤنا ومفكرونا منذ مطلع القرن العشرين وما قبل، فالكتب النفيسة كانت في خزائن أصحابها وقلة ممن لديهم القدرة من طلاب العلم على نسخ واقتناء الكتب أو حتى الوصول فكان أن تلفت نفر كريم من أعلام نهضتنا إلى هذا الأمر وبدأ العمل على إنشاء مكتبات عامة.
في العدد الأول من مجلة مجمع اللغة العربية وهو صادر بتاريخ 1 كانون الثاني سنة 1921م يتوقف سعيد الكرمي عند تاريخ نشأة مكتبات دمشق ويكتب تحت عنوان: دور الكتب وفائدتها، دار الكتب العربية في دمشق يقول الكرمي:
دار الكتب العربية في دمشق
من المعلوم أن أعمال البشر مرتبطة باعتقاداتهم ارتباطاً محكماً فلا يفعلون إلا ما يعتقدون فائدته، والاعتقادات التي ينجم عنها الخير لا تحصل إلا بالعلم فهو مصباح سبيل البر والسلاح على الأعداء وبه يبلغ الرقيق منازل الأحرار والدرجات العلا في الدنيا والآخرة.
ثم أن لتلقيه واسطتين لا ثالثة لهما أحداهما تلقيه بالتلقين من الأفواه وهذا لا يفيد إلا القواعد اللاتي متى رسخت في الأذهان توسع فيها الإنسان بمقدار مثابرته على تذكارها والعمل بموجبها وفي الحديث: من عمل بما علم أورثه الله علم مالم يعلم.
والثانية وهي أوسع دائرة وأكثر نفعاً وأغزر مادة وهي المطالعة في الكتب التي قيل فيها:
لنا جلساء لا نمل حديثهم
البآء مأمونون غيباً ومشهداً
فبقدر توسع الأمة وغناها في التأليف وكثرة الكتب تتقدم في الحضارة والتفوق وفي حسن الأخلاق فيكون ذلك سبباً في قوة شوكتها ونمائها.
هذا وأن لنا في الغرب لعبرة لأن أهله لعلمهم بأن رقي الأمم بمعارفها والمعارف لا تتم إلا بالكتب إذ هي لقاح الأفكار بل مصباحها أخذوا يبذلون النفس والنفيس في تشييد دورها وإفعامها بالكتب على اختلاف أنواعها ولغاتها وأجهدوا أنفسهم في تعلم كل لغة من لغات العالم ليقطفوا ثمرات الكتب المؤلفة في تلك اللغات فلا ترى مملكة بل إمارة من بلادهم إلا وفيها عدة دور للكتب مكتظة بأنواعها ولهم ولع زائد في اللغة العربية التي ما زالوا ينقبون عنها في بلادنا، يشترونها بأغلى الأثمان.. ومن العجب أن كثيراً من الكتب العربية ما وصل إلينا إلا منهم والبعض منها فقد أصله العربي ولم تبق إلا ترجمته.
والشاهد على ما ذكرناه من فائدة دور الكتب ما أحرزته العرب من الحضارة والعمران في صدر الدولة العباسية حتى غار منها ملوك الديلم وما وراء النهر وأتراك أذربيجان وعجم خراسان واقتدوا بها في لغتها وآدابها حتى تناسوا لغتهم والناس في سلوكهم على دين ملوكهم، فقد كان عضد الدولة بن بويه ديلمياً وله الشعر العربي الفائق.
ومن لا يعجب إذا سمع أن الصاحب بن عباد وزير بني بويه كان يستحب معه إذا سافر وقرأ أربعين بعيراً من كتب الأدب خاصة ولولا أن الكتب خير جليس وأمتع أنيس لما صرف همه إلى ذلك فقد كان لديه من مهام الدولة مالا يدع له فراغاً لغيره ولهذا كانت بغداد في ذلك العهد أم المدن حضارة وعلماً وكان فيها من المدارس ودور الكتب مالا يحصيه الحساب وأخذ الخلفاء إذ ذاك ولا سيما المأمون في جمع الكتب واستنساخها وترجمتها وإعدادها للراغبين ليتسنى له تعميم العلم الذي به تقل الشرور وتكثر الفوائد وليتمم رغائب والده الرشيد الذي ثبت عنه أنه جعل التعليم اجبارياً حتى قيل إنه لما أراد مصالحة أحد ملوك الروم جعل من شروط الصلح أخذ كتاب بطليموس في الرياضيات وكذا كان فإنه أخذه وترجمه إلى العربية وهو المعروف بالمجسطي.
وأصيبت الاندلس بأكثر مما أصيبت به دمشق وبقيت مصر محافظة على آثار الحضارة العربية بسبب وجود الجامع الأزهر -عمره الله إلى الأبد- لكنها لم تخل دور كتبها الوفيرة من عبث أيدي الطامعين فقد كانت مقر الفاطميين والأكراد والأتراك والجراكسة الذين كان يتلو أحدهم الآخر ويماثله أو يزيد عليه في اقتناء الأجر بتشييد المدارس وشحنها بالكتب المتنوعة فهزت الحمية الخديوي المرحوم اسماعيل بن ابراهيم بن محمد علي فأمر بإنشاء دار الكتب فأنشئت باسم المكتبة الخديوية في قصر درب الجماميز وبجمع الكتب التي في المدارس والمساجد غير كتب الأزهر فإنها مصونة بداعي الاشتغال بها وذلك في 20 ذي الحجة سنة 1286 فنقل إليها ما كان على ماذكرنا واستنسخ مالم يكن فيها من الكتب النافعة وأخذ في شراء النفائس الغريبة ولم تزل إلى الآن في نمو وارتقاء حتى صارت تضاهي دور الكتب الغربية انتظاماً ووفرة كتب.
هذا وقد كان في دمشق سلف صالح ممن يغار على العلم وإرشاد الأمة، نخص منهم بالذكر الأستاذ الشهير الشيخ طاهر الجزائري رحمه الله تعالى الذي كان إذ ذاك مفتش معارف ولاية سورية فشكى ضياع كتب الوقف إلى رئيس الجمعية الخيرية الشيخ علاء الدين حفيد العلامة ابن عابدين فأخذ في جمع الكتب الوقفية في مدة ولاية مدحت باشا لسورية في أثناء ذلك فصل عنها وأقيم مكانه حمدي باشا وحول عنوان الجمعية الخيرية إلى مجلس معارف وناط رياسته بالعلامة المرحوم محمود أفندي حمزة مفتي دمشق فقام المشار إليه بالاشتراك مع الشيخ علاء الدين المذكور آنفاً والشيخ سليم العطار والشيخ محمد المنيني وقدموا طلباً بذلك إلى الوالي حمدي باشا المذكور في 15 شباط سنة 1295 يتضمن أن الكتب الموقوفة هي لاستفادة العموم وقد حصرت بأيدي المتولين وحرم الناس من مطالعتها فالواجب أن تجمع الكتب والرسائل الموقوفة الكائنة تحت أيدي المتولين ووضعها في خزانة مخصوصة عمرت وأنشئت في تربة الملك الظاهر (بيبرس) في المحل المخصوص المعمر لأجل ذلك لتصير المنفعة عمومية ولا يحرم أحد من الاستفادة والمطالعة ويتأسس بذلك دار كتب عمومية فصدر أمر الوالي بذلك وأن تكون تحت نظارة الأفاضل الذين قدموا له الطلب باسم (جمعية المكتبة العمومية) وجمعت هذه الكتب من عشرة محلات: المكتبة العمرية وهي دار كتب عظيمة قديمة أكثر كتبها مصحح بأيدي العلماء المشهورين وبعضها بخط مؤلفيها وهي وقف أناس متعددين من أهل الفضل وكان مقرها مدرسة شيخ الاسلام ابن أبي عمر الحنبلي في صالحية دمشق المتوفي سنة 682 ومكتبة عبد الله باشا وهي مجموعة من كتب وقفها والده محمد باشا قبله سنة 1190 وكان مقرها في مدرسته إلا أنها اشتهرت نسبتها لابنه المذكور.
ومكتبة سليمان باشا وهي كتب وقفها المشار إليه سنة 1197 وكان مقرها في مدرسة باب البريد ومكتبة الملا عثمان الكردي وهي كتب وقفها المذكور وكان مقرها في المدرسة السليمانية أيضاً ومكتبة الخياطين وهي كتب وقفها الوزير أسعد باشا بعد سنة 1165 وكانت في مدرسة والده الحاج اسماعيل باشا في محلة الخياطين قرب المدرسة النورية المنسوبة لنور الدين الشهيد والمكتبة المرادية وهي كتب موضوعة في مدرسة الشيخ مراد النقشبندي ومكتبة السميساطية وهي كتب حديثة العهد وقفها بعض أهل الخير وكانت موضوعة في المدرسة السيساطية لضيق جامع بني أمية من جهة الشمال.. ومكتبة الياغوشية وهي كتب موضوعة في مدرسة سياوش باشا في محلة الشاغور ومكتبة الأوقاف وهي من دور كتب متفرقة تشتت أمرها فوضعت في ديوان الأوقاف حفظاً لها ومكتبة بيت الخطابة وهي كتب كانت موضوعة في حجرة الخطابة من الجامع الأموي ومن كتب أخرى وقفت حديثاً.
وعين لها محافظون وخدمة، لها نظام مخصوص يقرؤه من زارها وبقيت هكذا على حالها لا يزورها إلا القليل لعدم الرغبة في العلوم والمعارف ولاسيما في أثناء الحرب العامة المندفعة.
العدد 1150 – 4-7-2023