الملحق الثقافي- علي حبيب:
الأمر ليس مزحة ولا عادياً إنه أخطر أنواع الحروب التي يشنها الغرب على كل ما لايمضي في ركبه صحيح أن الكثير من الباحثين يعملون على تلطيف المصطلح وتحويله إلى صيغة أخرى مثل: تمايز ثقافي أو تكامل لكنه ليس كذلك أبداً حسب ما يراه الباحث عبد الله عليان في جريدة عمان، إذ يرى أنه منذ أن جاءت جحافل الاستعمار الغربي العسكرية والفكرية، للبلاد العربية وبعض البلاد الإسلامية، سبق ذلك أن مهد لذلك إرسال المئات من الخبراء والعلماء والباحثين من تخصصات مختلفة مقتدرة في الإمكانيات بشتى المعارف التي ستتم متابعتها وتقديمها لصناع القرار السياسي والاستراتيجي الغربي، للاستقصاء والمعرفة لأحوال هذه البلاد وشعوبها لعاداتهم وتقاليدهم ورؤيتهم، ولما يدور من أفكار ونظرات للدين والكون والحياة في ثقافتهم، وهذا التقصي والاهتمام لا ينحصر في توقعات الرد والمواجهة تجاه المستعمر بسبب اجتياحه لتلك البلاد، فهذا الأمر له عدته وأسلوب التعاطي معه، بل القصد من ذلك أمر آخر يختلف عما سبق اتخاذه، ألا وهو الاختراق الفكري والثقافي لهذه الشعوب من داخلها، ومن خلال بعض أبناء هذه الشعوب، وربطهم بفكر المستعمر ونظرته العامة تجاه الحياة التي يعيشها الغرب، وجعلهم نسخة كربونية منه فكراً وعقلاً، بعد أن يكونوا متأقلمين مع فكره ورؤيته للحياة، ويبقى هذا الشعب أو هذه الأمة تابعة أو خاضعة له فيما يراه، يخدم أهدافه وتوجهاته السياسية والفكرية والثقافية، وغيرها من الأهداف والخطط والبرامج، التي أعدها ورتبها بعد احتلاله، والتي تجعله أكثر ثباتاً في هذه البقعة الجغرافية من الأرض لعقود طويلة، ويؤسس لنفسه بعضاً مما تأثر به، ليجعل منهم أنصاراً له في الأوساط السياسية والفكرية والثقافية، وتلك كانت من الرؤى الجديدة التي جعلها منفذاً للتغريب بعد البلدان.
فالغرب في زحفه الاستعماري الجديد، تغيّرت نظرته تجاه اهتمام آخر، ألا وهو مسألة الاختراق الفكري أو الغزو الثقافي، كتوجه جديد يختلف عما كان عليه في صراعات سابقة مع العالم العربي والإسلامي ـ كما يسميها العديد من الباحثين العرب والأجانب ـ وهذه التغّيرات أتت بعد الفشل الذي حصل للغرب بعد الغزوات الصليبية العديدة، التي استخدمت القوة والعنف والسيطرة العسكرية، دون غيرها من الطرق والأساليب، حيث لم تستعمل قضية اختراق المجتمعات العربية المسلمة في الفترات السابقة، ولا كانت النظم السابقة تفكر في هذه النظرة آنذاك، ولم يتم التخطيط لها مسبقاً، ولا حاولت في ذلك، فالقوة المسلحة في تلك المراحل الماضية كانت هي الخيار الوحيد لهم في هذه الغزوات العدوانية، التي كانت شديدة القسوة، ولم تسلم منهم حتى الديانات الكتابية الأخرى، كالمسيحيين العرب، الذين وقفوا ضد هذه الحملات مع أنها رفعت شعار الصليب، كانت سياسية وقاسية على الجميع، لكنها خرجت بالقوة نفسها بعد عدة قرون، وهذه قضية من المسلمات التي لا فكاك منها لكل الشعوب تجاه الغزوات الخارجية والسعي لطردها، وأن تتحرر من الاحتلال الأجنبي البغيض، لكن الحملات الاستعمارية الجديدة المعاصرة، التي جاءت في التسعينات والعشرينات من القرنين الماضيين، كانت لها مرئيات أخرى تجاه تغريب المجتمعات واختراقها من الداخل بعكس الحملات الصليبية السابقة ـ كما أشرنا آنفاً ـ وقد كان بعض الباحثين الغربيين الذين ساهموا في الاختراق الفكري بعد دخول الاستعمار،أساتذة كبارا في بعض الجامعات العربية والمعاهد العليا ومنها الجامعات المصرية وفي الشام، وكان بعضهم كتاباً في بعض الصحف العربية وبعضها باللغات الأجنبية، مع مستشرقين كتبوا عشرات المؤلفات في الفلسفة العربية والتاريخ والأدب والفقه الإسلامي، وكافة العلوم الأخرى التي أنتجها العرب والمسلمون، وكانت حملة فكرية منظمة ومعدة إعداداً ضخماً، والهدف من ذلك خلخلة القناعات الفكرية عند العرب المسلمين، ومحاولة التهوين من فكرهم واعتبارها مجرد أفكار وآراء مستوحاة من ثقافات أخرى، والدعوة إلى نبذ الماضي العربي الإسلامي، والنظر للمستقبل وفق ما قام به الغرب تجاه الكنيسة والقساوسة، تحت دعاوى كثيرة، ومقارنة ما جرى من تحولات خاصة بفكرهم لنقله للعالم العربي، مع الاختلاف الكبير بينهما.
ولذلك هذا الاختراق الفكري والثقافي، له محددات مرسومة، خطط لها الغرب بدقة متناهية، لأهداف كثيرة وعديدة، منها أن يحول هذا المستعمر الأمة بينها وبين تاريخها الذي يمثل زادها الفكري، ليكون هو المرجع في التاريخ والفكر، ويزيح تلك الرابطة التاريخية، ومن هذه الأهداف التي سعى لها المستعمر، أن تكون مناهج التعليم له من نظرته، تحت ستار التحديث والتطوير والترقي بالعلوم الحديثة، لكن عينه على الجانب الفكري والثقافي، وليس الجانب العلمي الخالص الذي لا يرفضه أحد، أيضاً هدفه إقصاء اللغة الوطنية ـ لغة الغالب على المغلوب وفق رؤية ابن خلدون ـ لكنه يشجع اللهجات العامية، لتكون البديل للغة الحية، لغة القرآن الكريم. من هنا يرى المفكر العربي محمد عابد الجابري أن:« الثقافة هي المُعَبّر الأصيل عن الخصوصية التاريخية لأمة من الأمم، عن نظرة هذه الأمة إلى الكون والحياة والإنسان ومهامه وقدراته وحدوده، وما ينبغي أن يعمل وما لا ينبغي أن يأمل، وهكذا ففي الثقافة وبالثقافة يدخل الفرد البشري حقًا في البعد الإنساني للحياة ويسمو عما فيه من مقومات بيولوجية محض، وبالثقافة تتخذ حياته شكلًا خاصًا، فهي التي تعطيه الجذور وهي التي تموضعه في المكان والزمان وتجعله حاملًا لتراث، وهي التي تفتح أمامه إمكانيات وآفاقًا خاصة يستطيع بها التعرف إلى العالم والاحتفاء به». ولا شك أن العديد من الطلبة العرب والمسلمين، الذين ذهبوا للدراسة في الغرب، في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، احتضنهم بعض الأساتذة الغربيين المهتمين بالفكر العربي الإسلامي ـ خاصة ـ فرنسا ـ كانت أعمار هؤلاء الطلاب آنذاك في العشرينيات، وزادهم الفكري والثقافي ضعيف، لذلك تأثر بعضهم بالثقافة الغربية إلى حد الاندماج.
كانت الجهود معدة لهذه الأهداف لاختراقهم فكرياً مسبقاً، لأن بعض هذه البعثات التي شجعها المستعمر، ليس بهدف تشجيع التعليم والمعرفة عموماً، وإنما تشجيع انصهار بعض هؤلاء الشباب في فكره، والأجواء كانت مساهمة في ذلك آنذاك، فقد كانت بداية نهضة الغرب العلمية، وتقدمه ونجاحاته العسكرية والصناعية، عاملاً مهماً في تأثر بعضهم، وهذه عوامل لها تأثيرها في الشباب الذي لا شك انبهر بالغرب وتقدمه، في الوقت الذي كان الوطن العربي، وأغلب البلاد الإسلامية، في تخلف تعليمي وفكري ومدني، لكن مقابل ذلك كان بعض ممن درس في الغرب، لم يقع في مصيدة هذا التأثير، وتعلّم وحقق نجاحاً جيداً في دراسته العلمية، دون الالتفات إلى انصهاره في الغرب وفكره ونظرته، أو أن يفرط في ثقافته الذاتية، والأمثلة كثيرة لا يتسع المجال لسرد تلك القامات الفكرية، التي استفادت من العلم الغربي، الذي لا شك أنه حقق نجاحات ضخمة في شتى المجالات العلمية والفكرية، بفضل ما أنجزه من العلوم والبحوث، ولا يزال كذلك يواصل نجاحاته، صحيح أنه استفاد من الحضارات التي سبقته، وهذه مسألة بديهية في حياة الأمم والحضارات، وستبقى تلك التحولات قائمة في الحياة الإنسانية.
ولا شك أن قضية الاختراق الفكري والثقافي لا تخص الوطن العربي وحده دون غيرها من الثقافات والشعوب ونظم أخرى، فهذه قضية اشتكت منها الكثير من دول العالم، وحتى من دول أوروبية، ونتذكر أن فرنسا وكذلك كندا، مع بدايات تطبيق منظمة «الجات» وبروز العولمة وتعميمها عالمياً، بدأ حديث الخطر يبرز والدعوة لحماية الثقافة الذاتية من اختراق ثقافات أخرى تريد إزاحة الثقافة الوطنية، وقد تحدث بعض المفكرين الفرنسيين، عن مظاهر الاختراق الثقافي، الذي سيشكل خطراً على الثقافات الأخرى، فأحد الدبلوماسيين الفرنسيين قال في إحدى المرات مع تزايد الحديث والضجة القائمة حول ما سموه الغزو الثقافي الأميركي قال في هذا الصدد:«من المفترض الدفاع عن الثقافة وخصوصيتها في قلب تشاركها مع الثقافات الأخرى في الإبداع الإنساني الواحد.. فالدفاع عن الهوية الثقافية لا يتعارض ومفهوم «استثناء الثقافة».. اكتساح ثقافة لثقافة أخرى ليس لمصلحة أي بلد من بلدان العالم.. بل سيصبح العالم إذا ما تم ذلك الاكتساح فقيراً ثقافياً، وستتعثر تجربة التطور الإبداعي والفكري في العالم كله». والصين أيضاً حذرت من الفضاء الإلكتروني المفتوح، وتأثيره على بعض الدول في تلك البقعة الجغرافية الآسيوية من الناحية الثقافية.
والبعض من الكتاب والباحثين، ينتقد قضية التمايز بين الثقافات أو التعصب لهذا الانفتاح الفكري والثقافي، دون قيود وسدود بين الثقافات، بل أحد الكتاب، يرى أن الحضارة المعاصرة حضارة عالمية واحدة، ولم يعد التمايز ينفع في هذا العصر، أيضاً أحد المثقفين العرب سخر من قضية (الغزو الثقافي)، وقال ناقداً هذه الدعوة:« يحرص كثير من الكتاب في هذه الأيام على رفع راية تحذرنا من الغزو الثقافي فيستنهضون هم العرب مخافة أن يتأثروا بثقافة الغرب، على أن لأمتنا حضارة تخصها وتراثاً قائماً بذاته ». ولا شك أن هؤلاء متأثرون بالغرب في فكره ورؤيته تجاه تعدد خيار الثقافات وتعددها، وهي مسألة تتعلق بإقصاء الثقافات الأخرى، وجعل الثقافة الغربية هي السائدة، وهذا ما حذرت منه منظمة «اليونسكو» التي أكدت في عدة توصيات انبثقت عن مؤتمرات عديدة، حول السياسات الثقافية وكيفية النهوض الذاتي على ضرورة درء الخطر الثقافي وصيانة الهوية الثقافية للشعوب. وهذه مسألة صحيحة وليست أوهاماً، أو تخيلاً عند البعض، ولذلك الاعتزاز والتمسك بالثقافة الوطنية، حاجة وضرورة من التعدي الفكري والثقافي، وفي غياب ذلك فهو الانصهار في الثقافة المهيمنة.
العدد 1151 – 11-7-2023