الملحق الثقافي- مارييل تونجال:
السؤال الذي يطرح نفسه بقوة عند كل مواجهة مع الحرف، لماذا أكتب؟
في الواقع لا يوجد دافعٌ حصريٌ لذلك إلا إذا اعتبرنا أنّ الكتابة هي نزالٌ من جولات لا حصر لها بين الحياة والفناء، فالإنسان لا يفهم الموت ولا يهواه، ولا يستطيع أن يصدق أنّ كل ما ينتظره بعد هذه الحكاية، التي هو فيها المحور والبطل الذي تدور حوله الأحداث، كيف ينتهي به الأمر إلى حفرة في الأرض لا تتعدى الاثنين من الأمتار مع ذلك الصمت الذي لا يمكن زحزحته والذي يثير الكثير من علامات الاستفهام.
فهل يمكن أن نعتبر بعد كل هذا، أنّ الكتابة ثرثرة؟!
أجل هي ثرثرة، والحديث فيها عن قصة إنسان ربما لا يعرف بوجوده إلا شخصين، ومع ذلك يكتب ويذيل اسمه تحت الكتابة فربما ينتظره خلودٌ ولا يطاله نسيان.
لكن السؤال الذي لا بدَّ لنا من التوقف عنده قبل أن نشرع في الكتابة، فهو:
– ماذا سأكتب؟
في خط التعبير عن الذات بدأت الكتابة حالة رسم لمشهد من مشاهد اليوميات وهي في جوهرها تبقى كذلك حتى يومنا هذا.
لكن تغيَّر التصميم والأداء، ولأنها تعبير عن الذات فهي حمولة كل واحد منا النفسية والفكرية، لذلك برز مع الوقت ما صنّفه البشر، كاتب أو مفكر، أو أديب.
وكل من يتعاطون (فن الكتابة) والكتابة أصبحت فن، وأصبح لدينا موهوبون، ومن هنا تحولت الكتابة إلى عمل بالغ التعقيد، لهذا أصبح جواب السؤال: «ماذا سأكتب»؟ عمل في غاية الخطورة، فبوجود الكاتب ظهر أيضاً تصنيف آخر وهو القارئ، وظهر أيضاً التلميذ المتأثر بما يقرأ، وتحول ذلك الأمر العفوي للتعبير عن الذات، إلى مجرى سياسي يقود المجتمعات البشرية من ثقافة إلى أخرى في مسعى الارتقاء.
– إلى من أكتب؟
هذا السؤال لا يفكر فيه الكثيرون، لكنه يسكن في اللاوعي عند الجميع، هناك مَن يشدد أنه يكتب من أجل نفسه ومع ذلك فهو يشعر بالانقباض إذا خلا من صفحته قرّاء، فلا أحد منا أبداً يكتب من أجل نفسه، هذه كذبة جوفاء، نحن نكتب لنقول للآخر: «أنا موجود هنا يا صاح».
إذاً لماذا نفعل ذلك؟ لماذا الإنكار؟ هل هو خوف من ألّا نكون على قد مقام عقل القارئ أو قلبه؟ أم هو مجرد خيلاء؟
ويأتينا أيضاً من يستعرض عضلاته اللغوية وثرائه بالمفردات، وهذا لا يهمّه حقاً من يقرأ له، بل هو منشغل بالذات، لذلك التواصل ليس أحد أهدافه على الإطلاق، بل هو استعراض جماله والبهاء، لذلك أيضاً فإن خلو صفحته من الجمهور سيرميه في الاكتئاب.
بعضنا يكتب ليعيش، لذلك ينصب خيمته على أعتاب السلاطين أو يكتم الحق في صدره ويكتب رياءً خوفاً على الرقبة من الأفكار، ما أشد بؤس هذا الإنسان إن لم يصفّق له الخليفة يشعر أنّ عليه أن يولي الأدبار.
قال نزار:»الكتابة ولادة» حين يأتيك مخاض الفكرة فلا تملك حتى أن تنام، وككل طفل نأتيه، ننادي لمن حولنا أن يشاركنا الأفراح.
وهناك من يكتب وجعه، وكم يرتاح حين لا يجد نفسه وحيداً في ذلك الاختبار بل يُخرج له الكثير من الأصوات الغريبة التي تقول له:»وأنا أيضاً لدي هذه المعاناة»، هذا نوع آخر أكثر قرباً بين الكاتب والقرّاء، يُضاف إليه من يُخرجون مكبوتاتهم الثقافية والدينية وإلا سيعانون من الانفجار، وكثير كثير من القصص الشخصية التي هي الأشد رواجاً هذه الأيام.
ألا يذكّرنا ذلك بالسبب الرئيسي الذي وُلدت منه الكتابة في غابر الأزمان؟
تعالوا لنلقي نظرة الآن على أصحاب المشاريع الإنسانية التي ظهرت من ثمارهم الكتب الأيديولوجية والأسفار النبوية، والذين يكون قرّاءهم أتباعٌ وجيوش جاهزة عند إعلان الفرمان، هؤلاء سيكتبون عن المبادئ والعقائد والأخلاق وينظمون الشرائع والقوانين ويطلقون الأحكام وقد يكونون متنوّرين وأيضاً من الممكن جداً أن يكونوا على استبداد، أما من يحوزون مرتبة النبوّة فيصبحون أعلى بكثير من أن يوضعوا على طاولة النقاش.
من هذه الخاصرة نجد أن الفلسفة هي التي أسهمت في إنجاب هؤلاء الأولاد، وأنّ بنات الأفكار مشغولة في تحديث الحياة الإنسانية وفي الارتقاء، لذلك سنجد أيضاً الأساتذة والمعلمين والمحاضرين على منصة الأكاديميات، وقد تصبح الكتابة هنا على الورق لكن الأهم أن تكون صفحات العقول هي القرطاسيات.
وهناك من يجنّ ليله شوقاً فيكتب المعلقات، ويزهو الشعر بأوزان المشاعر وقوافي التنهدات لكي يتناول الموسيقيون ما تركته آثارهم من حروف، فيحولوها إلى أغنيات، ونكتب ونكتب كما لو كانت الكتابة لقاء حبّ يتوق لو يتحد به عاشقان، الكاتب والقارئ، ليتم الزواج وإنجاب مجتمع جديد في توجهه والنماء.
العدد 1158 – 5-9-2023