الملحق الثقافي- مها محفوض محمد:
دمشق كما قال أحمد شوقي فيها (روح ورياحين )
وبرداها هو الخلد الذي وعدوا به، كيف صورها الغرب منذ قرون ومنذ عقد أيضاً، ولماذا ينقلبون عليها ويحاولون تدميرها، أليس الأمر عدواناً موصوفا أن تعمل على تدمير ما كنت تقول إنه أجمل أماكن الأرض، لن نذهب بعيداً فقد أعدت عام 2010 مجلة نوفيل اوبسرفاتور ملفاً خاصاً عن مدينة دمشق وفيه دعوة للقارئ لاكتشاف أقدم عاصمة في التاريخ.
دمشق التي بقيت زمناً طويلاً أحد الأسرار العصية على الأوروبيين هي اليوم حاضرة حديثة منفتحة على العالم، هي الواحة الأجمل في الشرق الأوسط.
في الثاني من نيسان عام 1833 زارها الشاعر الفرنسي لامارتين قادماً من لبنان وصعد إلى قاسيون ليكشف المدينة من أعلى الجبل ثم كتب: «تمتد دمشق على مدى النظر عبر متاهات من حدائق الزهور وتلقي بذراعيها الطويلتين هنا وهناك وكأنها حورية سارحة في سهل واسع، وحيثما كان ظلال الشجر الكثيف من المشمش والتين والجميز وأنواع أخرى من الأشجار تتفاوت في ألوان خضرتها وتكتظ في حلقات وكأنها أدغال.
اليوم ومن المكان ذاته لم نعد نرى ما كنا نراه، إنما يمكنك أن تقضي مساءً رائعاً على قمة قاسيون تتمتع بهواء منعش وترى دمشق تشع بأنوارها ليلاً تتعانق فيها أضواء المآذن الخضراء مع أنوار الكنائس الزرقاء، هذا المشهد الرائع ورغم الضجيج هو في غاية العذوبة والجمال.
ويتعلق أهالي دمشق بهذا المكان كثيراً فيأتون إليه كعائلات أو كعشاق ولا أحد يعيق الآخر، فالمكان للجميع.
دمشق كما رآها لامارتين كانت كحبة مشمش مفتوحة قليلاً تلوح بداخلها حبة من الفستق ومع أن التشبيه لم يعد اليوم كذلك لكن الصورة محفورة في الأذهان.
ثمرة المشمش التي تشتهر بها دمشق يمكن أن نبتاعها مجففة بطعم لذيذ من أفخر محلات صنعها «غراوي» حيث تعرض الحبة وكأنها حجر كريم، فهي متعة للعين والذوق معاً.
قليلة هي المدن التي تمنحك هذا الشعور بالمتعة كما تمنحك دمشق وكأنها مدينة الملذات.
القدامى يمكن أن يتفهموا ماهية المدينة حين نقول لهم: إنها تذكرنا بالمدن الإيطالية القديمة قبل أن تتحول هذه المدن إلى متاحف بسماء مفتوحة، فالضجيج ذاته ومشاهد لها المعاني ذاتها حتى المشاعر في ممارسة الطقوس الدينية.
الدخول إلى معالم دمشق هو تجربة في غاية المتعة خاصة عند الذهاب إلى المدينة القديمة والتجوال بين أبوابها، بدءاً من باب الجابية مع أنه ليس الأكثر فخامة وصولاً إلى باب شرقي، أما حي القنوات الذي نصل إليه عبر أدراج في أزقة ضيقة ففيه تعبير عن مزاجية المدينة ببساطة كبيرة، حيث نجد تلالاً من الفواكه بجميع أصنافها وعصير الرمان وأكوام الخضار والتوابل ذات الألوان المتعددة والخبز الساخن الخارج لتوه من الفرن ولحم الخراف ذا الرائحة القوية المنتشرة في المكان والتي سرعان ما تتغلب عليها رائحة القهوة بالهيل، وفي نهاية السوق تجتاز الشارع على وقع أصوات الزمامير وكأنك تغامر باجتياز الشارع المزدحم لكن من المؤكد لن يحصل لك شيء.
في الجانب الآخر من الشارع يبتدئ التاريخ هناك عند الطريق المستقيم الذي مشى عليه القديس بولس والذي يبلغ طوله حوالي الكيلومتر من الغرب إلى الشرق ويرسم خطاً مضيئاً في مدينة قديمة تندر فيها الطرق المستقيمة ومن هذه النقطة عليك أن تحار دون أن تحاول الفهم لماذا؟ فدمشق القديمة هي أكوام من الحجارة الأزلية أعيد توزيعها مرات عديدة على مر العصور، فمن حجارة معبد روماني أقيم جامع، ومن أعمدة المعابد تم تشييد قصور، هي اليوم مهجورة والأزقة فقط تعيد الصورة لحركة هذه الصروح التي كانت مجداً لأمم تعاقبت عبر آلاف السنين وكانوا يظنون أن المدينة لهم وحدهم ولم يكن ذلك إلا وهماً جميلاً فالمدينة ليست لأحد إنها للجميع، دمشق تستقبل من جميع الأمم وتمزج بين الجميع تتحدى القوانين الصارمة، أسواقها توحي لك بأن هناك نظاماً خفياً في اختلاط التوابل والعطور ثم أسواق القماش والجلود والأعشاب الطبية، هذه الأسواق تعيش حلم تجارة أبدية لا مثيل لها في أي مكان، إنها صورة لشعب اشتهر بالتجارة والحرف وقد كانت قبل كل شيء مناسبة للقاء أكثر منه لإنجاز الأعمال، وهذا المشهد متجدد دائماً عبر الشارع الدمشقي، فالمدينة القديمة تعبر عنه بشكل كاف، فهناك تجد زائرين من جنسيات مختلفة والنساء المحجبات كما ترى النساء اللواتي يرتدين آخر الأزياء، إنها معجزة دمشق فمركزها التاريخي ما زال يجهل بل يأبى أي فرز اجتماعي كالذي نراه في المدن الغربية الكبرى.
ففي دمشق تتعايش الأديان جميعها والكل مرتاح، ما تفتقده المدينة اليوم ولن تستعيده أبداً، هو خرير الماء العذب الذي كانت تنبعث أصواته كالموسيقا.
اليوم لنا أن نتخيله فقط بالسماع إلى رشفة النرجيلة التي تصدر أصواتاً مشابهة وهذا ما نجده خلف الجامع الأموي في مقهى صغير يفترش الطريق، فهناك نستطيع الجلوس لساعات طويلة ندخن بهدوء ونرى كل شيء دون أن نفعل شيئاً وهذا أحد الدلائل على حياة الترف والمتعة.
هذا ما كتبته المجلة منذ ثلاثة عشر عاماً، فما الذي جعل أحقادهم تتفجر على أم الحضارات، أليس من واجب كتابهم ومبدعيهم ومفكريهم لجم جنون ساستهم، الذين يدمرون كل الجمال باحقادهم ودعمهم للإرهاب؟.
العدد 1158 – 5-9-2023