الثورة – ريم صالح:
لم تكن مبادرة الحضارة العالمية التي أطلقها الرئيس الصيني شي جين بينغ في ١٥ آذار ٢٠٢٣، والتي تهدف إلى استرداد مفاهيم التعايش السلمي بين الشعوب، ومنع الحروب، وتخفيف التوتر، وتكريس قيم السلام، والتنمية، والإنصاف، والعدالة، والديمقراطية، والحرية، وتبادل المعارف، وتعزيز الحوار بين الشعوب، وتحقيق رفاهيتها، وتعاون الحضارات كل الحضارات، وصنع حضارة بشرية سلمية قائمة على التعاون، وتكريس القيم النبيلة، هي المبادرة الوحيدة التي أطلقتها بكين للتعايش السلمي بين الدول، لاسيما وأن القيادة الصينية والمفكرين الصينيين قد أدركوا جيداً أن مستقبل الشعب الصيني مرتبط شديد الارتباط بمستقبل العالم، بل بالكوكب الذي نعيش فيه.
لقد أدركوا أهمية مساهماتهم لصنع السلام، والتنمية، والاستقرار منذ وقت مبكر من قيام جمهورية الصين الشعبية، فكان لابد من ابتكار مفاهيم وأطر حديثة تمنح العالم وشعوبه خارطة طريق جديدة للتعايش، وبناء عالم خال من الحروب، والدمار.
وبناء عليه طرح رئيس مجلس الدولة الصيني الأسبق شو إن لاي لأول مرة ما أطلق عليه لاحقاً المبادئ الخمسة للتعايش السلمي، وذلك عام ١٩٥٣ والتي تقوم على الاحترام المتبادل للسيادة وسلامة الأراضي، وعدم الاعتداء المتبادل، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للآخر، والمساواة، والمنفعة المتبادلة، والتعايش السلمي، وسرعان ما أصبحت هذه المبادئ والقيم مجموعة من الأعراف التي تحكم العلاقات الدولية، والمعترف بها على نطاق واسع، حيث اعترفت بها حركة عدم الانحياز، بينما أدرجتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام ١٩٧٠ في إعلان مبادئ القانون الدولي المتعلقة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول وفقاً لميثاق الأمم المتحدة.
ومع أنها كانت تلك أولى مساهمات الصين لعالم يسوده السلم والتعاون والمصير المشترك إلا أن مبادرات الصين لم تنته عند هذا الحد، حيث تواصلت مساهماتها لتطرح للعالم إنتاجها الفكري الفريد، وفي هذا السياق تعتبر مبادرة الأمن العالمي، التي طرحها الرئيس الصيني شي جين بينغ العام الماضي، خطة طريق ناجحة لمواجهة التحديات التي تواجه الشعوب، وتتح أيضاً آفاقاً واسعة نحو المستقبل الواعد عبر التعاون المشترك بين الشعوب، إذا تنص هذه المادرة على التمسك بمفهوم الأمن المشترك والشامل والتعاوني والمستدام، والعمل سوياً على صيانة السلام والأمن في العالم؛ والتمسك باحترام سيادة الدول وسلامة أراضيها وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، واحترام الطرق التنموية والنظم الاجتماعية التي اختارتها شعوب العالم بإرادتها المستقلة؛ والتمسك بالالتزام بمقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، ونبذ عقلية الحرب الباردة ومعارضة نزعة أحادية الجانب، وعدم ممارسة سياسة التكتلات أو المواجهة بين المعسكرات؛ والتمسك بالاهتمام بالهموم الأمنية المشروعة لكافة الدول، وإقامة إطار أمني متوازن وفعال ومستدام على أساس مبدأ الأمن غير القابل للتجزئة، ومعارضة السعي إلى الأمن القومي على حساب الأمن القومي للغير، والتمسك بإيجاد حلول سلمية للخلافات والنزاعات بين الدول من خلال الحوار والتشاور، ودعم كافة الجهود التي تسهم في إيجاد حلول سلمية للأزمات، وعدم جواز المعايير المزدوجة ومعارضة فرض عقوبات أحادية الجانب بشكل عشوائي أو ممارسة “اختصاص طويل الذراع”، التمسك بحماية الأمن في المجالات التقليدية وغير التقليدية، والعمل سوياً على مواجهة النزاعات الإقليمية والقضايا الكونية مثل الإرهاب وتغير المناخ والأمن السيبراني والأمن البيولوجي.
كذلك طرحت الصين نموذج تنميتها الجديد القائم على خصائصها، وتجربتها، وتراثها، وتاريخها، وتجارب البشرية جمعاء، وتقدمت بمبادراتها في مكافحة الفقر، ومبادرة التنمية العالمية، ومبادرة أمن المعلومات، وبالطبع مبادرة الحزام والطريق، والتي تعتبر من أهم وأضخم المبادرات الإنسانية والاقتصادية في الخمسمئة عام الأخيرة، والتي أطلقتها بكين عام ٢٠١٣، ووقعت عليها أكثر من ١٥٠ دولة، وأكثر من ٣٠ منظمة دولية، وكان لها أثراً عظيماً بالنظر إلى ما قدمته من مساهمات إيجابية عديدة بتنمية الاقتصاد، والتوظيف، وتحسين معيشة الناس بمختلف البلدان، حتى أصبحت منصة للتعاون الدولي.
والثابت هنا أن جوهر كل هذه المبادرات كان التعايش، والتناغم، والتعاون بين كل الأمم.
ليس هذا فقط بل إنه يحسب للصين أيضاً أنها قدمت مساهمة هامة في ضمان النمو المستقر للاقتصاد العالمي، فهي ومنذ انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية عام ٢٠٠١ استوردت ما يقارب ٧٥٠ مليار دولار من البضائع سنوياً، أي أنها خلقت أكثر من ١٤٠ مليون فرصة عمل لتلك الدول والمناطق المصدرة.
كما شاركت بكين بصورة فاعلة في جهود مجموعة ال٢٠ في بناء آلية دولية للحوكمة الاقتصادية، وذلك في وقت تبذل فيه جهوداً جبارة في تنفيذ الأهداف الإنمائية للألفية للأمم المتحدة.
يضاف إلى ذلك أن الصين تقدم مساعدات كبيرة إلى الدول الأخرى، فهي وحتى نهاية عام ٢٠٠٩ قدمت ٢٥٦.٣ مليار يوان إلى ١٦١ دولة، وأكثر من ٣٠ منظمة دولية وإقليمية، وقلصت وألغت ٣٨٠ ديناً مستحقاً على ٥٠ دولة من الدول الفقيرة، والمثقلة بالديون، والدول الأقل نمواً.
كذلك قامت بتدريب ١٢٠ ألف شخص للدول النامية الأخرى، وأرسلت ٢١ ألف عامل طبي، وقرابة ١٠ آلاف معلم إلى الدول النامية الأخرى.
كما أنها سبق وتعهدت بمنح المعاملة الجمركية الصفرية ل٩٥٪ من المنتجات المستوردة من الدول الأقل نمواً ذات العلاقات الدبلوماسية معها.
وتلعب الصين أيضاً دوراً رائداً في صيانة السلم الدولي، حيث أنها أرسلت نحو ٢١ ألف شخص في ٣٠مهمة لحفظ السلام للأمم المتحدة، ما يجعلها أكبر مساهم في عمليات حفظ السلام للأمم المتحدة بين الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن.
والصين أيضاً عضو في أكثر من ١٠٠ منظمة حكومية دولية، وطرف متعاقد لأكثر من ٣٠٠ معاهدة دولية، وهي مساهم إيجابي فعال في بناء النظام الدولي.
وتتمسك الصين بحل النزاعات على الأراضي والحقوق والمصالح البحرية مع الدول المجاورة عبر الحوار والمفاوضات على سبيل الذكر لا الحصر طرحت بكين مبادرة بناءة بشأن ترك الخلافات جانباً والسعي إلى التطوير المشترك، وبذلت قصارى جهدها في حفظ السلام والاستقرار في بحر الصين الجنوبي، وبحر الصين الشرقي، والمناطق المحيطة بهما.
باختصار تؤمن الثقافة الصينية منذ القدم: بأن العالم وحدة متكاملة متناغمة، وبالتالي يؤمن الشعب الصيني بمفاهيم مثل: الوفاق مع الاعتراف بالخلافات، والتناغم بين الإنسان والطبيعة، والسلام هو المثل العليا، وبناء عليه تركت ثقافة الانسجام بصمات عميقة في الشخصية القومية للشعب الصيني المحب للسلام، وبالتالي كان طريق الحرير طريقاً للتجارة، والثقافة، والسلام، كما كان شاهداً على تاريخ الصينيين القدامى في السعي إلى التواصل الودي، والتعاون المشترك مع شعوب العالم.