الملحق الثقافي- د. ياسر صيرفي:
لا شكَّ في أنّنا عندما نضعُ مقاييسَ للأشياءِ أو نقيِّمُها نقفُ عندَ قيمةِ تلك الأشياءِ فيما تقدِّمُه أوّلاً، ومن ثّمَّةَ نقفُ عندَ الظروفِ التي قُدّمتْ فيها تلك الأشياءُ، فعلى سبيلِ المثالِ عندَما يُقِيمُ الإنسانُ شعائرَ العباداتِ في مجتمعٍ كلُّه مواظبٌ عليها يكونُ الأمرُ طبيعيّاً أو على أعتابِ الطبيعيِّ، أمّا أنْ يرسِّخَ الإنسانُ قواعدَ العباداتِ قولاً وفعلاً في مجتمعٍ باتَ في منأًى عن هذه العباداتِ أو يكاد… عندَها نحكمُ على ذلك الإنسانِ بالقوّةِ، وهنا نقصدُ عمليّةَ الإبداعِ، فالإبداعُ الذي يأتي في ظروفٍ ملائمةٍ ومستقرّةٍ يمكنُ أن تُكتبَ له سمةُ الإبداعِ، لكنّه لا يُوسَم بالإبداعِ المتميّزِ، في حين لو أتى الإبداعُ وتبلورَ بأجملِ صورِه في ظلِّ المواجهاتِ المَقيتةِ والظروفِ الصعبةِ فهنا تتسابقُ الألسُنُ لوصفِ ذلك العملِ «بالإبداعِ الفريدِ»، لأنَّ أيَّ عملٍ إبداعيٍّ أم غيرِه يحتاجُ لبيئةٍ حاضنةٍ تخلقُه ثمَّ تنمِّيهِ ثم تعرضُه على صفحةِ الواقعِ بأجملِ حللِ الإبداعِ، ولعلَّ أجملَ صورِ الإبداع الذي يأتي في ظلِ ظروفِ المواجهةِ والصّعابِ ما قدّمَهُ وما يقدّمُه اليومَ الفلسطينيون المبدعون على الرَّغمِ من كلِّ ما يحيطُ بهم من ظروفٍ قاهرةٍ، فقد حافظوا بروحِهم الجبّارةِ على تراكماتِ الإبداعِ التي يحملونَها، ثمّ لم يلبثوا أنْ جعلُوها حصناً حصيناً يواجهون من خلالِه ذلك الكيانَ الغاشمَ، وقد كيّفوا إبداعاتِهم إلى أن تبلورتْ وتكيّفتْ مع المواجهة التي يعيشونَها، فباتوا في خندقٍ واحدٍ مع المقاتلين، كلٌّ بأسلوبِه وأدواتِه، فالإبداعُ بكلّ أشكالِه (شِعْر، فنّ، موسيقا، رسم) عنصرٌ فاعلٌ في أيِّ مواجهةٍ، وربَّما له السبقُ بها، فالمبدعُ عندما يسعى لنشرِ الإبداعِ يقفُ على ضفّةِ النقيضِ ويواجهُها، فهو ينشرُ الحبَّ في عالمٍ سادَ فيه الكرهُ، ويرسمُ الجمالَ في دنيا القُبحِ والقَزَازةِ، وينشرُ السَّلامَ في عالمِ الفوضى والقتلِ، فيبدعُ إبداعاً يفوقُ أيَّ حدودٍ، وهنا تصدقُ مقولةُ: «الإبداعُ ينبعُ من رَحِمِ الألمِ والمُعاناةِ»، وعندها يبدو الإبداع أجمل، وكلّنا ثقة بأنّ الإبداع كان في خندق المواجهة الأوّل، وسيعود كما كان سبّاقًا في تلك المواجهة.
العدد 1164 – 24-10-2023