الملحق الثقافي- دلال إبراهيم:
دخل التتار بغداد عام 1258 فقتلوا ما يزيد على 800 ألف مسلم، فطلبوا من المؤرخ ابن الأثير تدوين هذه الفترة فظن ابن الأثير أنها نهاية العالم، وأن هذه هي علامات الساعة، وأن تأريخ هذه اللحظات لن يفيد، فرفض وقال مقولته الشهيره : مَن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسيا». فهل نأي مثقفونا ومفكرونا وأدباؤنا بأنفسهم وصمتهم المريع عما تشهده غزة من عمليات قتل وإبادة ممنهجة يندرج ضمن هولهم مما يجري، وقناعتهم أنه عار على التاريخ هذه الحقبة من تجرد الإنسان من إنسانيته ؟
يقول الكاتب الفرنسي جوليان بيندا في تعريفه للمثقف ضمن كتابه (خيانة المثقف) الذي أطلق فيه صرخته في وجه المُثقّفين الذين تستهويهم مُغريات السلطة والجماهير فتقودهم إلى الانحياز لمصالحهم السياسية والنفعية على حساب دورهم ومسؤولياتهم الأخلاقية، حيث أصبح مصطلح «خيانة المُثقّفين» منذ ذلك الوقت يرمز للإشارة إلى تخلّي المُثقّفين عن استقامتهم الفكرية،وقد ذكره مراراً في كتابيه «المُثقّف والسلطة» والكتاب الذي أسلفنا ذكره يصفه بأنه: «هو الذي لا يسعى وراء المصالح والمكاسب بل يجد سعادته في ممارسة فن أو مزاولة علم أو البحث في نظريات ما وراء الطبيعية. وتتلخص سعادته في الترفع عن ملذات الحياة, لسان حاله يقول: إن مملكتي لا تنتمي لهذا العالم».كان يتحدث عن أهمية الدور الذي تنكَّب عنه الكثيرون، سواء بالوقوف مع الجهة الخطأ، أم بالتزام الصمت الذي هو شكلٌ من أشكال الخيانة. لا نجافي الحقيقة إن قلنا إن أزمة عنيفة قد طرأت على المثقفين، فلامست أخلاقهم وإنتاجهم، ومواقفهم من القضايا المهمة والخطيرة. فأين يقف المثقف من هذه الاضطرابات الوعرة، التي حلَّت بالمجتمع والأفراد على حدٍ سواء، وهل يصح له النأي بنفسه عن مشكلات الناس اليومية والتي تلامس كل مناحي حياتهم وعن إبادة شعب بكل فئاته دون أن يرتفع صوت لأي منهم؟ وهل لهذا المثقف الذي قصر حياته على مجالي الفكر ويقظة العقل المتفكر، والنفس المترفعة عن الدنايا، أن يغفل عن خطورة دوره ومسؤوليته تجاه محيطه العام؟ فيبني لذاته برجاً عاجياً ينعم فيه ببرودة الفكر وكسل الروح. ويرى بيندا أنَّ المثقف الحقيقي، والأمين على دوره الريادي يرقى لمنزلة «حفيد الأنبياء» صاحب الرسالة الفكرية والموقف الأخلاقي، بما يستدعي هذا من تضحية ونضال. وقد أشار المفكر الفلسطيني «إدوارد سعيد» إلى الكتاب، وإلى مدى أهميته في كتابه «تمثيلات المثقف»، بأنه يمثل الحقيقة في مواجهة القوة، «ولذا نجد إلى اليوم أن المثقف الحقيقي يتعرض للتهميش والتضييق والنفي والاعتقال».
ضروب من الخلل يسود الحياة الفكرية والأدبية في البلاد العربية، وانزياح فكري وأخلاقي حقيقي للمثقف، أي أولئك الذين خانوا الفكر النقي الخالص، هائمين وراء الأهواء السياسية والإيديولوجية، متخلين عن المثل العليا التجاوزية. لا يتحركون باسم أي قيم إنسانية حقيقية، بل باسم أيديولوجيات ومنطق أحزاب ودول وجماعات منغلقة على نفسها لا تسعى إلا إلى نشر الكراهية وشتى أنواع العداوات في سبيل ما يُخيّل إليها أنها قيم ترتبط بالخير والحقيقة والجمال. أو الركون إلى الدعة والحياة الباذخة والسعي وراء الجوائز بما أمكن من سبيل. طبقة ثقافية -وللأسف – تتعالى عن الاهتمام والانخراط في قضايا تشغل العام. وبالتالي فقد باتوا بعيدين عن وصف المفكر الإيطالي غرامشي «هم آباء الحركات وأمهاتها، ومن جهة أخرى هم أولادها فمن غير المثقفين لم تكن لتشتعل أي ثورة رئيسة في التاريخ الحديث، وبالمقابل لم تقم أي حركة مضادة للثورة دون المثقفين».
في كتاب بيندا، والعنوان يوضح ذلك، فإن المثقفين مسؤولون ومذنبون عن الوضع الذي خلقته استقالتهم، وتحولهم «إلى ممثلين كوميديين بلا عمل ولا سلطة ولكن يتمتعون بظهور إعلامي». أي تحويل أعمال العقل إلى سلعة. وبهذا فإن بيندا يدين ما سماه (المفترس الإعلامي)
وهذا يقودنا إلى سؤال ملح: من هم المثقفون والمفكرون الحاليون الذين يمكن أن يرقوا إلى ذلك المستوى من المثقفين الذين لهم التأثير القوي في العقول والأذهان؟ بالطبع يمكن أن نجيب أن هناك بالفعل أسماء فكرية جديدة تملأ الساحة الثقافية،لكنها تبدو أنها مجرد أسماء في نظر كثير من النقاد، مثل الفقاعات تماماً. أسماء تحتل فقط باستمرار شاشات المواقع الإعلامية أكثر ما تحتك بالجمهور مباشرة مع الطلبة والطبقات الاجتماعية مثلاً، أو تؤثر انطلاقاً من كراسي الجامعات أو في المقاهي الأدبية والجمعيات والتنظيمات المختلفة المدنية والسياسية. إنها «نجوم جديدة» صنعها ويصنعها الإعلام السريع، وتعمل مواقع التواصل الاجتماعي كما نلاحظ على ترويج ونشر أفكارها وترسيخ صورها، وتكريس آرائها، وهي غالباً ما تكتفي بردود أفعال فكرية تتقلب مع تبدل الأحوال وتنوع المتلقين والمعجبين. الواقع أن الثورة الإعلامية قد غيّرت طبيعة التواصل وأغرقت «المثقفين» في عوالم افتراضية، فنسجت شبكة مغايرة من العلاقات، وبدلت طبيعة الاحتجاج ومفهوم التأثير،وحولت أساليب صناعة الآراء، وبالتالي غيّرت طبيعة العمل الفكري وخلخلت مكانة المثقف،بل غيرت وظيفته ونظرة الناس إليه.
إن ما يميز عالم اليوم،أي العالم وقد اكتسحته التقنية والإعلام،هو غياب ذلك الاختلاف، فساد نوع من التبسيط والتسطيح والأحادية والتنمية الفكرية المختزلة على وجه الخصوص. وقد كتب الكاتب «>ميلان كونديرا» في فن الرواية موضحاً ذلك بقوة هذا التغيير في مهام المثقف وعلاقته بالإعلام بقوله: (تعمل وسائل الإعلام في خدمة توحيد تاريخ الكرة الأرضية، فهي تضخم وتوجه عملية التقليص، إنها توزع في العالم كله التبسيطات نفسها والصيغ الجاهزة التي يمكن أن يقبلها مجموع البشرية، ولا يهم أن تعلن مختلف المصالح السياسية عن ذاتها في مختلف وسائلها، فوراء هذا الاختلاف السطحي تسود روح مشتركة. يكفي تصفح الصحف اليومية أو الأسبوعية الأميركية والأوروبية، سواء أسبوعيات اليمين أو أسبوعيات اليسار، من التايم إلى شبيغل: فهي تملك جميعها الرؤية عن الحياة ذاتها، وهي رؤية تنعكس من خلال السلم الذي تنتظم المواد المنشورة بموجبه، في الأبواب ذاتها، في الصيغ الصحفية عينها، المفردات ذاتها، الأسلوب ذاته، الأذواق الفنية عينها، وجميعها في نفس مراتبية ما تجده عاماً أو عديم الأهمية. هذه الروح المشتركة هي روح عصرنا… يطرح كونديرا هنا ثقافة التوحيد والتنميط، حيث أصبح الكل ينهل من الثقافة نفسها، يتغذى من الغذاء نفسه، ويرى الصورة عينها، وينفعل الانفعال نفسه. أصبحوا موحدي الأذواق والمظاهر والانفعالات والإحساسات. ولا يمكن كما نلاحظ أن تستثني بلداً كما يرى كثير من المهتمين بالخطاب التقنوي الإعلامي الذي يوجه اللعبة ويتحكم فيها،واعياً بخفاياها، حائكاً لخيوطها.
ومن هنا، وأمام ظهور هذه التعديلات، وإلحاح هذه الأسئلة، بل وأكثر من ذلك مع تراكم هذه المخاطر، حيث يبدو المجتمع الحالي في أزمة والوعي الإنساني موضع تساؤل، فإن الحاجة إلى «إعادة التفكير في دور المجتمع الفكري» الذي يحتاج إلى ايجاد المعنى والعقلانية صار أمراً ضرورياً.
وكما يبدوا، أن صناعة المثقف الصادق عند «بيندا» صعبة هذه الأيام، لأن ما آل إليه المثقف هو نتيجة الظروف الاجتماعية والسياسية المفروضة عليه -على حد تعبيره-. لذلك فالشر الأكبر ليس خيانة المثقفين وحسب؛ بل صعوبة أن تحيا حياة المثقف في عالم اليوم.
العدد 1167 – 14-11-2023