الاصطفاف الدولي الحاصل في المواقف مما يجري في غزة لم يحصل منذ الحرب العالمية الثانية فكرس ما كان موجوداً في ذاكرة الغرب الجمعية وتكرس في أوكرانيا وقبلها في العراق وما وصلنا إليه اليوم في غزة أمام هذا الواقع، فالواضح أن النظام الدولي الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية في طريق النهاية ولكن يبدو أنه مع أن نظاماً دولياً جديداً لم يتشكل بعد فالعالم يعيش مرحلة انتقالية، وعندما يعيش العالم مثل هذه الحالة بين نظامين، فهذه مرحلة خطيرة جداً لأن كثيراً من الأمم تكون طامحةً لملء الفراغ الحاصل، ومن هنا تبرز وتتفجر الصراعات كما هو حاصل الآن في أكثر من مكان، ففي إفريقيا حيث فرنسا العجوز تطرد والغرب الاستعماري يواجه العديد من الهزائم والتحديات والأفارقة يتحدثون علناً عن التاريخ الاستعماري لأوروبا إضافةً إلى ما يجري في منطقتنا بمواجهة العدو الصهيوني ولاسيما في غزة في ذات السياق إضافة لنهضة الشرق ممثلة في جمهورية الصين الشعبية والهند، فالذي يجري في غزة وأوكرانيا وغيرهما يسرع حالة الانتقال إلى نظام دولي جديد مأمول، فإذا كان الانتقال إلى نظام دولي جديد يحتاج وفق رؤية بعض الاستراتيجيين إلى خمس عشرة سنة في الحسابات الراهنة، فبفعل ما يحدث في غزة وأوكرانيا وبحر الصين سيجعل في ولادة نظام دولي جديد عقد من الزمن متوقعة في أبعد تقدير، وغالباً ما يحصل في حالة الانتقال التي نحن بصددها المزيد من الحروب والصراعات، وهنا نتذكر نظام عصبة الأمم الذي ولد بعد الحرب العالمية الأولى وهيئة الأمم بعد الحرب العالمية الثانية والصراع السوفييتي الأميركي وحرب أفغانستان والعراق والذي ساهم في تشكل نظام القطب الواحد الذي يترنح الآن ويلفظ أنفاسه على وقع الصراعات والمنافسات القائمةً وفشل أميركا في إدارة المشهد العالمي.
ترى ما هو موقعنا نحن العرب في هذه اللحظة الفارقة في التاريخ فهذا ظرف قد لا يتكرر إلا خلال عشرات السنين أو أكثر فهذه لحظة جدير بأن ننتبه إليها ونعي تفاصيلها لأننا سنتحمل مسؤولية وجودنا فيها والعالم يتغير ؟
إن ما حصل خلال الشهر المنصرم وما زال في غزة وعلو سقف الاستراتيجية التي وضعها الكيان الصهيوني من حربه على غزة التي لم تتحقق بالكامل بعد على الرغم من أنه تمكن من تحقيق بعض الأهداف التكتيكية وضخم في حجمها إعلامياً ما حدا بالعدو التخفيض من حجم الأهداف في غزة من إنهاء المقاومة واجتثاثها ثم تدمير قدرات حماس العسكرية ثم إخراج حماس من حكم غزة واستعادة الرهائن، والحقيقة أن هذا التخبط في التصريحات يعكس حقيقة أن ثمة عقليتين إسرائيليتين تحكمان ذلك عقلية إبادة للشعب الفلسطيني وإنهائه على قاعدة توراتية دينية مفرطة في عنصريتها ووصف الفلسطينيين بالأشواك التي يجب قلعها واجتثاثها، وهم مع وجود سبعة ملايين فلسطيني مساوين لعدد اليهود، وفي حالة تزايد مع تراجع أعداد المهاحرين والمستوطنين فهنا لابد من طردهم وإخراجهم أو التخلص منهم بطريقة أو بأخرى، وهذا لا يختلف عن القناعات التي تمسك بها قادة الحركة الصهيونية من يهوذا كوك إلى يهودا القلعي لذلك وجدنا أن بنيامين نتنياهو يستشهد بما فعله يوشع بن نون حسب سفر الخروج وبما خاطبه الرب يهوه : حيث أمرك الرب بإبادة العماليق حتى لايبقى منهم أحد، ولكنه لم يقم بقتل حمار وامرأة عاهرةً بقيا أحياء ما تسبب له بغضب الرب عليه، فقد استشهد نتنياهو بتلك المروية الدينية في معرض حديثه عن غزة وما يجب فعله بسكانها، وهذا تشريع وواجب شريع ديني يسمح بارتكاب كل الجرائم إضافة لما تحدث به ما ورد في لقاء مع الصحفي جدعون ليفي في وسيلة إعلام هي يديعوت أحرونوت إذا أردتم أن تعرفوا كيف يبرر الإسرائيلي قتل الأطفال فعليكم أن تعلموا ثلاثة أشياء أولها أن الشعب اليهودي يعتبر نفسه شعب الله المختار، فالآخر ليس مثل شعب الله المختار فهو أدنى منه في التراتبية الإنسانية ثانياً يجب أن تعلموا أن المحرقة التي حصلت لليهود طورت لدى الشخصية الإسرائيليةً حالة تجعلها تفعل ما تشاء لأنها الضحية ضحية دائماً حتى لو كان الشخص هو القاتل والنقطة نقطة الثالثة أن مايرتكبه الإسرائيليون ليس أكبر الجرائم التي ارتكبت في التاريخ، وهنا يتصالح الإسرائيلي مع حالة القتل ويتعايش معها إضافة إلى ثمة فتاوى من الحاخامات تبرر وتشرعن القتل كما حصل مع المجرم باروخ غولد شتاين وإيغال عامير، فهذا التكييف الديني يجعل القاتل يقوم بفعله دون حساب أو ضمير بل واجب شرعي علماً أن شريعة موسى تحث على عدم القتل، لا تقتل لا تزني لا تسرق وغيرها مما ورد في ناموس النبي نبي موسى، ولكن عندما يتم اختزال نص وتكييفه سياسياً من قبل مجموعة من الملاحدة، فنتنياهو أساساً لا يصنف في التيار الديني بل العلماني، وهو شأن أكثر قادة الكيان بمن فيهم هرتزل الذي كان يهزأ بفكرة وجود الرب ولكنهم استخدموا النص واستثمروا النص الديني استخداماً أداتياً لتحقيق أهداف سياسية توسعية عنصرية.
وبالعودة لأسباب تراجع أهداف العدوان على غزة لابد من الإشارة إلى أن القرارات التي اتخذها الصهاينة كان هدفها الانتقام بفعل الصدمة التي تلقوها من المقاومة في السابع من تشرين الأول، فكان قراراً بحالة غضب وغالباً ما كانت القرارات التي تتخذ بحالة الغضب قرارات غير صائبة وقابلة للتحقق ما أوقع قادتهم بنوع من الخداع الذاتي وعدم اليقين في تحقيق الأهداف وأخرجت المبادرة من أيديهم، والنقطة الثانية أنه أعطي الضوء الأخضر والرخصة من البيت الأبيض بعمل كل ما يريد لأنه وفق زعمهم في حالة دفاع عن النفس وأنهم يواجهون إرهاباً علماً أننا أمام مغتصب ومحتل للأرض وفق القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة ذات الشأن، فالحق هو للفلسطيني المقاوم وليس للمحتل، فمع حالة التراجع، وفشل النقطة الثالثة تكمن في أن الجيش الإسرائيلي استبدل في السيطرة على كامل أهل القطاع مستعيضاً عن ذلك قتل بالقتل والتدمير الممنهج لجهة إعطاء انطباع بأنه قادر على الأذى وأن ذراعه القتل والتوسع قوية ورادعة بهدف ترميم صورته أمام مجتمعه وحماته في الخارج والعمل على دفع سكان غزة لمغادرتها باتجاه سيناء، وهو أمر مستبعد بسبب تمسك السكان بأرضهم ما يعني فشل هذا التيار الإلغائي في سياساته وأهدافه البعيدة، ولعل ما جرت الإشارة إليه يمثل تياراً سياسياً في إدارة الحرب، وهذه توجهات التيار الديني المتطرف في الحكومة التي يطلق عليها تحالف المولوتوف.
أما التيار الثاني فهو الذي يمثله تيار جابوتنسكي اليميني المتطرف صاحب نظرية الجدار الحديدي الذي يجب وفقه أن تسيح إسرائيل أمنها به سياسياً وأمنياً وعسكرياً بحيث لا يسمح لأحد بالتفكير بتهديد وجود وأمن إسرائيل وأن لا يفكر أحد من الفلسطينيين بإمكانية المواجهة أو مجرد التفكير بالمقاومة وليس المقاومة بحد ذاتها من هنا تسعى إسرائيل لاستعادة فكرة تكريس فكرة الجدار الحديدي عبر التغول باستعمال العنف والقتل والتدمير لجهة إعادة ترميم الصورة لدى الرأي العام الإسرائيلي وخارج إسرائيل كما أشرنا سابقاً، وهذا الذي يحدث راهناً، ويقابل ذلك مقاومة شرسة من الشعب الفلسطيني مع تمسك بالأرض في الداخل والشتات وعدم تمكن إسرائيل من خلق حالة وهن في عزيمة وإرادة الشعب الفلسطيني وإلحاق هزيمة نفسية به وهذان العنصران هما من يحددان نتائج المعركة السياسية والعسكرية وصراع الإرادات.
ولعل السؤال الذي يفرض نفسه ترى ما نتائج المعركة السياسية والعسكرية الحاصلة ولا شك أن ذلك مرتبط بما يجري على الأرض والقدرة على المواجهة واستمرارها والتمكن من التعامل مع مستجداتها وتداعياتها واستطالاتها الإقليمية والدولية ومستوى الصبر الاستراتيجي لاستكمال الانتصار الذي تحقق.