يمكن للمتابع لما يجري في الساحة الفلسطينية وغزة على وجه التحديد والمشهد العالمي منذ معركة طوفان الاقصى أن يستعيد الذاكرة القريبة صورة أن يأتي الرئيس الأمريكي جو بايدن ويترأس مجلس الحرب في الكيان الصهيوني ويعطي إسرائيل كل ما تحتاجه لكي تشن حربها من دون حدود أو ضوابط على الغزيين وبالوقت نفسه يضغط على الأوروبيين وباقي الدول كي تتبنى الرواية الإسرائيلية التي تماهي بين قتال الغرب بزعمه لداعش وقتال الصهاينة للمقاومة في غزة إلى درجة أن الفرنسيين دعوا إلى تحالف دولي للقضاء على “حماس” كما فعلوا ضد داعش في حين قام البريطانيون بما يمكن تسميته برحلة حج للكيان الصهيوني الى درجة أنه خرجت قرارات تمنع حتى التعاطف مع الشعب الفلسطيني ولاسيما سكان قطاع غزة المحاصرين منذ ستة عشر عاماً في سابقة لم تشهدها الحروب والصراعات عبر التاريخ رافقتها حالة استعداء للشعب الفلسطيني لم يشهدها تاريخ الصراع الممتد طيلة قرن من الزمن مع حمى إعلامية وسياسية غربية غير مسبوقة تجاه المقاومة الفلسطينية وأهالي غزة.
أمام تلك الصورة التي خيل للبعض أنها ستستمر في إيقاعها وزخمها نرى اليوم وبعد أربعة أشهر ونيف من الحرب غير المسبوقة تحولاً بل تغيراً في المشهد هو التحول الكبير فالحرب التي أعلنتها الولايات المتحدة وبقيادتها بأساطيلها وغواصاتها النووية وبوزير خارجيتها الذي جاء إلى إسرائيل كي يتحدث بوصفه يهودياً واليوم نجد موقفاً فكل التحريض وكذلك الرواية الاسرائيلية التي أرادت أن تضع السابع من تشرين بمعزل تام عن تاريخ الصراع ولكنها فشلت في تحقيق ذلك والسؤال لماذا؟ والحقيقة انه في العقل الجمعي الإسرائيلي هناك ما يمكن تسميته الاستثنائية فنحن (أي اليهود) لسنا كبقية البشر فنحن تعرضنا للمحرقة الهولوكوست وبالتالي نستحق أن يتم التعامل معنا بطريقة مختلفة حتى أن محكمة العدل الدولية تشكلت وأحدثت على خلفية ما حدث من مجازر وإبادات لجماعات معينة من أهمها الجماعة اليهودية فكيف (لاسرائيل) التي وجدت هذه المحكمة أساساً على خلفية المحرقة التي تعرض لها اليهود أن تحاكم أمامها؟؟.
إن حالة الاستثنائية الصهيونية الاسرائيلية عند بعض الدول ولاسيما الأوروبية منها التي تجاوزت كل الحدود الدبلوماسية والاخلاقية وحتى الليبرالي الغربي وانتصر للرواية الصهيونية في بداية معركة الأقصى وأعلن العالم الغربي النفير ضد الفلسطينيين نجد اليوم محكمة العدل الدولية التي تعتبر أعلى هيئة قضائية في العالم التي تؤول لها صلاحية الدفاع عن المنظومة الحقوقية والأخلاقية العالمية تعترف بأن الأدلة التي قدمتها جنوب أفريقيا يمكن وصفها بالمعقولية والمنطقية وينبغي النظر فيها لأنه يمكن أن تكون إسرائيل قد ارتكبت جرائم إبادة جماعية ونحن قبلنا القضية المرفوعة وهذه مسألة جوهرية لأن ما قدمته جنوب افريقيا متماسك قانونياً ورواية تنتصر إلى أن هناك شعباً فلسطينياً وأنه وقع عليه إبادة جماعية وأنها كانت نتيجة سلوك وتصريحات عسكرية وسياسية صهيونية مباشرة ومعلنة وموثقة فما قدم هو معقول ومنطقي وجدير بالنظر فيه أمام هيئتها القضائية وهذا المستوى من التعاطي الجدي هو انتصار بعينه بعيداً عن عدم مطالبتها كما تمنى البعض بوقف إطلاق النار.
إن الرواية الصهيونية التي حكمت العقل الغربي وأحياناً الدولي عبر الإعلام والتحشيد هذه الرواية بدأت تنهار وتتفتت أمام أعين الجميع وهذا انتصار للحقيقة وللشعب الفلسطيني وكل من يقف إلى جانبه وانتصار لمبدأ العدالة الدولية والإنسانية حيث طويت صفحة حرمانية من ينتقد إسرائيل أو الصهيونية تحت عنوان العداء للسامية التي تحولت إلى شكل من أشكال الإرهاب الفكري إلى درجة أن من يتهم بها في الغرب يفصل من عمله وتنتهي حياته السياسية إذا كان سياسياً وكأننا أمام محاكم تفتيش مرة أخرى ولكنها يهودية وعلى العموم كل هذه الرواية سقطت فأصبحنا نرى المظاهرات المنددة بما يجري في غزة والضفة والمطالبة بوقف تلك المجازر بحق الشعب الفلسطيني تنطلق من قلب اوروبا وأمريكا في واشنطن ولندن وباريس وروما ومدريد وبمئات الآلاف في ظاهرة غير مسبوقة فثمة تحول عميق وجوهري في صلب الرواية الاسرائيلية التي كانت تفرضها نفسياً وذهنياً وعقلياً على الكثير من شعوب العالم والرأي العام العالمي وهذا أيضاً انتصار كببر في الحسابات الاستراتيحية لصالح القضية الفلسطينية يضاف إليه التغير في تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيرش ضد ما يجري في غزة والتصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح وقف إطلاق النار بأكثرية ساحقة كل ذلك يشير إلى أن ما كان يعتبر (استثناء) لإسرائيل وحصانة لا يمكن لأحد أن يتحداها قد انتهى وأصبح من أفعال الماضي والى جانب ذلك بدأنا نلمس مراجعة للمواقف الأميركية والأوروبية تجاه اسرائيل من دعوة أو رغبة أميركية بتغيير الحكومة الإسرائيلية المتطرفة وهو ما جاء على لسان الرئيس الأميركي بايدن والدعوة لإقامة دولة فلسطينية على قاعدة حل الدولتين وكذلك ما صرح به وزير خارحية بريطانيا عرابة سايكس بيكو بالتفكير بالاعتراف بالدولة الفلسطينية من قبل المجموعة الأوروبية وهو ما أثار حفيظة القادة الصهاينة واعتبروه بداية تخل متمرحل من الأوربيين عن ثوابتهم السياسية تجاه الكيان الصهيوني.
إن كل ما تمت الإشارة إليه مترافقاً مع حالة الخداع الذاتي التي وقع فيها ساسة العدو الصهيوني أمام مستوطنيهم من خلال رفع سقف التهديد والوعيد بالقضاء على المقاومة في غزة واستعادة الأسرى والمحتجزين خلال مدة محدودة يضاف لذلك حالة عدم اليقين عند حلفاء الكيان والمراهنين عليه بعدم قدرته على تحقيق ما أطلقه من أهداف وعناوين كبرى وبنك أهداف ادعى أنه سيحققها واجهتها مقاومة غير مسبوقة من المقاومة الفلسطينية وأهالي غزة والشعب الفلسطيني وأنصاره وحلفائه في العالم وهم كثر وفاعلون كل ذلك يشير الى التحول الكبير في مشهدية الصراع وقلب للصورة وتفاؤل أكيد بانتصار تاريخي للشعب الفلسطيني وقوى المقاومة على الصهاينة والمشروع الأميركي في المنطقة على وجه العموم.