الثورة _ رنا بدري سلوم:
المطر وجهٌ ساكنٌ فينا، تغنّى به الشعراء، تتبّعوا بحواسهم التقاط المطر من وميض البرق إلى مراحل تكوينه، من سحابٍ يتجمّع في قبّة السماء والرّياح التي تلحقه وتحمله، والبرق المشتعل في أرجائه، والرعد المجلجل في نواحيه، والأماكن التي تستقبله وتنعم بهطوله، والآثار التي يخلّفها على الحياة والنفس من هدوء وسكينة والكثير من الحنين.
تتبّعوا خافقهم في تشكّله وكأنهم يناجون الصّاحب والرفيق، بالسهر والأرق لمشاهدة البرق وترقّب خلق المطر وآثاره بالدّعاء والسقيا للأهل والدّيار والحبيبة.
ومن هؤلاء الشّعراء امرؤ القيس الشاعر المبدع، الذي أقام بنياناً قوياً لصورة المطر، وأكثر من وصفه في ديوانه، وتغنّى به حتى عدّه النقّاد والشّعراء من» أجود الذين وصفوا المطر» كان يصفه بحرارة عاطفته، وصدق أحاسيسه وحبّه له، ففي معلّقته الشهيرة يقدم مشهداً كاملاً متنامياً لرحلة المطر من السماء إلى الأرض، يشعرنا بقوة المطر وغزارته واندفاعه الذي بدأه بوصف البرق ووميضه الذي يلمع كلمع اليدين، أو مصابيح الرّاهب، وما كان هذا البرق إلا مبشّراً ونذيراً بما يحمله سحابه من أمطار غزيرة كالطوفان:
أحارِ ترى برّقاً كأنَّ وميضَه
كلمع اليدينِ في حُبى مكلل
يضيء سناه أو مصابيحُ راهبٍ
أهانَ السليطَ في الذبالِ المفتلِ
قَعَدتُ له وصحبتى بين ضارج
وبين العذيب بعد ما متأمّل
أما عبيد بن الأبرص فهو من شعراء الجاهليّة الذين فتنوا أيضاً بوصف المطر وأبدعوا فيه وقدّموا له صوراً رائعة موحية بالحياة والحركة والنماء، ففي قصيدة له وصف بها المطر، بدءاً من رياح الصبا التي تدفع السحاب وتجمعه والصبا من الرّياح المحبّبة إلى العرب لرقّتها لأنها تجيء بالسحاب والمطر وفيها الرّي والخصب:
يا من لبرقِ أبيتُ الليل أرقبه
في مكفهِرّ وفي سوداء مكرومَهْ
يا من لبرق أبيت الليل أرقبه
من عارض كبياضِ الصبّح لمّاح
دانٍ مسفٍ فويق الأرض هيدبه
يكاد يدفعه من قام بالرّاح
وعن التوظيف الشعري لصورة المطر فقد بدت واضحة في كل معانيها، ومعالمها وجزيئاتها وكأنهما ينشدان إلى صور الكمال والمثاليّة في كل موضوعاتهم، لذا إلى اليوم ونحن نذكر شعرهم ونحلق معه، ويمكن القول: إن الحياة والموت قد صُوّرا في المطر من خلال توظيفٍ شعري في حالات الثبات والدّيمومة الحركة الجمود والتطوّر.
ماذا عنها؟!
المرأة كالمطر رمز للخصب والحياة والنماء، فهي وجهٌ للخير والجمال والحبّ، وشوق الشّاعر وحبّه لها كشوقه للمطر، لذلك استعار لوصفها أجمل ما في فكرة المطر من معانٍ، فصارت كل مقارنة لديه تستمد أصولها من تقارب أو تشابه أو تناسب بينها وبين المطر.
وكان لامرؤ القيس وعبيد بن الأبرص من ظاهرة المطر وتوابعها في غزلهما وكيف طوّعا الصور والأخيلة المستمدّة من الظاهرة في تشكيل صورة المرأة المثاليّة التي أحبّاها، فاعتمد امرؤ القيس في وصفه على حصر المعنى الكثير في اللفظ القليل فكتب:
كأن المدام وصوب الغمام وريح الخزامى ونشر القطر
يعل به برد أنيابها إذا طرب الطائر المستحر
أما عبيد بن الأبرص يؤكّد قيمة المرأة وسحر محبوبته فكتب:
أمن أم سلم تلك لا تستريح
وليس لحاجاتِ الفؤاد مريح
إذا ذقتُ فاها قلتُ طعم مدامة
مشعشة ترخى الإزار قديح
بماء سحابٍ في أباريق فضّة
لها ثمن في البائعين ربيح.
ويبقى للمطر عشّاقه الحالمين والشعراء، فما يتركه المطر في نفوسنا يصعب وصفه مهما علا شأن الأبجدية، نبقى عاجزين عن تصوير جماليات الطبيعة التي وصفها الأدب العربي وصفاً قديماً ودقيقاً، وذلك فإن للمطر جانباً من جوانب الشّعر العربي والعصر الجاهليّ، فهذا الاهتمام منبثقٌ من شبه الجزيرة العربيّة التي يغلب عليها الجفاف وندرة المياه، وهو بذلك قد شكّل المطر أهم عنصر من عناصر تصاويرهم الفنيّة والأدبيّة في شعرهم الأصيل.