الحداثة الشعرية تجديد أم تقليد جديد ؟!

الملحق الثقافي- مفيد فهد نبزو:               

كثيرون هم النقاد والباحثون الذين تناولوا قضية تجديد الشعر العربي منذ القديم حتى اليوم، وأبرزوا مفهوم الحداثة الشعرية من خلال القصيدة وبنيتها الفنية تارة، ومن خلال بيئة الشاعر تارة أخرى، فمن كان يتناول أغراضه متأثرًا بالبيئة البدوية من حيث المقدمة الطللية يعتبر قديماً كلاسيكيًا ، ومن تحرر منها، وراح يتناول أغراضه متأثرًا بالبيئة الحضرية يعتبر تجديدًا، وهذا ما عبر عنه الدكتور أنيس المقدسي حين قال : لا ينكر أن بعض الشعراء في كل جيل قد حاولوا شيئاً من التجديد في نسق العمود الشعري، وإلى ذلك أشار أبو نواس في إحدى خمرياته إذ قال :
صفة الطلول بلاغة القدم
فاجعلْ صفاتك لابنةِ الكرم
وكقوله متهكماً بالشاعر الذي يجري على الطريقة القديمة :
عاجَ الشقيّ على رسمٍ يسائلهُ وعجتُ أسألُ عن خمَّارة البلد
وإذا ما انتقلنا إلى العصر الحديث وجدنا تأثر الشعر العربي بالحضارة الغربية، وكأن الحداثة في تناول مواضيع حديثة فرزتها الحضارة الجديدة مما جعل مصطفى صادق الرافعي يصف القطار:
يا سعدُ هذا عصرنا فدعِ النياق يشفها الإتهامُ والإنجادُ
واهجرْ حديثَ الرقمتين وأهلهِ
بادتْ ليالي الرقمتين وبادوا
وبهذا قد برز التحول عن الزخرفة البديعية إلى البساطة الطبيعية، وسلوك سبيل الحرية، وفي هذا التحول فتح الباب لنزعة شعرية جديدة هي النزعة الرومانسية أو الإبداعية، أما النزعة الرمزية في الشعر، فيعود أصلها إلى الشعر الصوفي الإسباني ، ويرى الدكتور أنيس مقدسي في مقالته المنشورة في مجلة العربي الكويتية في العدد – 67 – يونيو – حزيران – 1964 م – أن للشعر الرمزي ميزتين رئيستين أولاهما أنه موسيقي الأساس، وثانيهما أنه يعنى بإيحاء اللفظ لا بمعناه القريب، والنزعة الإيحائية في الرمزية تقتضي في الغالب غير المألوف في التعابير والقرائن كقولهم : الشهوة الحمراء – الجمال الخجول – الثلوج الخرساء – العدم الضرير – الطعم الرمادي – الضوء البليل – ضباب القنوط – كبرياء النهر، وما شابه ذلك من الأوصاف الجديدة، أما الدكتور عبد العزيز المقالح ، فقد رأى أن الشاعرة الكبيرة نازك الملائكة وزميلها في الريادة للجديد الشاعر بدر شاكر السياب قد اعترفا بالأثر الكبير الذي تركته محاولات علي أحمد باكثير، ودوره الواضح على التجربة الشعرية الجديدة، ومن ثم عادت لتقتصر بالتأثير العام والشامل على دورها ودور زميلها السّياب، ووضعت شروطًا أربعة تعتبرها بداية هذه الحركة، وهي أن يكون ناظم القصيدة واعياً إلى أنه قد استحدث بقصيدته أسلوبًا وزنيًا جديداً يكون مثيراً أشد الإثارة حين يظهر للجمهور، وأن يقدم الشاعر قصائده مصحوبة بدعوة الشعراء إلى استعمال هذا اللون في جرأة واثقة في شرح الأساس العروضي الذي يدعو إليه، وأن تستثير دعوته صدى بعيداً لدى النقاد والقراء، فيضجون فورًا سواء أكان ذلك ضجيجاً أم إعجابًا أم استنكارًا، وأن يدفعهم هذا لكتابة مقالات يناقشون فيها هذه الدعوة، وأن يستجيب الشعراء للدعوة، وأن يبدؤوا فورًا باستعمال هذا اللون الجديد، وتكون الاستجابة على نطاق واسع يشمل الوطن العربي كله، ولم يكتف الدكتور عبد العزيز المقالح بهذا بل رأى أن تجربة باكثير رائدة ومثيرة بكل المقاييس، وهي لم تكن مقصورة على قصيدة أو قصيدتين أو حتى على ديوان من الشعر يضم بين دفتيه بعض القصائد، وإنما هي تجربة تتمثل في عملين فنيين كبيرين أحدهما مترجم، وهو روميو وجولييت، والآخر عمل إبداعي هو إخناتون ونفرتيتي، وهما من حيث الحجم وكم الشعر يزيدان على كل ما قدمه السّياب ونازك من قصائد جديدة منذ أن بدأت ريادتهما سنة – 1947 م – إلى أوائل الخمسينات، والأسئلة الكثيرة التي تطرح نفسها الآن : هل استطاعت الحداثة الشعرية أن تفرض وجودها في عالمنا العربي الأدبي المعاصر؟ وهل نجحت الحداثة في تفاعلها مع المتلقي لتحقيق الغاية المنشودة ؟ ، وأين نحن اليوم من الحداثة إذا كانت شكلاً، ولم تكن مضمونًا ؟، وأيُّ معنى للحداثة وحداثة الحداثة إذا كانت تقليدًا للشعر العالمي الذي يستمد مفرداته من واقعه الغريب عن واقعنا، وتوظف ألفاظاً غريبة عن قاموسنا اللغوي، وعن بيئتنا التي نعيش فيها مثل : البجع والسيرك ورقصة السامبا وموسيقا الروك، والأدغال بأشجارها ونباتاتها، ومناجم الفحم وغيرها من دلالات تؤدي دورًا تقليدياً، وليس دوراً تجديدياً حتى ولو عالج الشاعر قضايا عصرية جديدة من الحضارة البشرية المعاصرة برؤية حديثة، وبمفهوم إنساني شمولي بعيد عن المألوف السائد، وبطريقة متحررة من سلطة الوزن والقافية أي الأسلوب الكلاسيكي، ومعتمدة على الشكل الذي يسمى جديدًا من خلال النثر أو التفعيلة، ولكنه لم يستطع أن يحقق جمالية الإبداع المدهش بالمغاير المنسجم روحاً وجسدًا مع ماهية الحداثة الجديدة المبتكرة التي يتفاعل معها المتلقي تفاعلاً خلاقاً له خصوصيته حين تؤثر فيه، وتحرره من قيود التبعية، وتخلصه من اجترار القديم المقلد الذي يتمكن أن لا يؤسر في مكان ولا يؤطر في زمان، وما ذلك إلا لأنه نابع من الحس والخيال بالوعي المشرق الذي يضيء طاقات مظلمة، ويفتح قارات جديدة لمَّا تُكْتشفْ بعدُ، ولمَّا يعرفها مبدع ٌ من قبله، وقد عبَّر الشاعر الإسباني الكبير ثيسار باييخو عن هذا المفهوم الحديث للشعر حيث قال : لا أعتبر الشعر جديداً لمجرد استخدامه ألفاظًا جديدة من التكنلوجيا الحديثة لأنه بهذا لن يكون حديثاً إذا لم تستوعبه الروح، وتحوله لمشاعر جديدة خلاقة، فالشعر القائم على المفردات والاستعارات الجديدة يكتسب حذلقة وجدة بتعقده وتكلفه، أما الشعر الجديد فعلًا فهو القائم على الشعور الجديد الإنساني الطبع، والبسيط التركيب بدون حذلقة ولا تكلف، وكذلك استطاعت الكاتبة مها دحام أن تلقي الضوء على مفهوم الحداثة معتبرة أنه عانى من غموض كبير في بيئة الفكر الغربي التي كانت الأساس في إيجاده، ويظهر هذا الغموض بشكل أكثر وضوحا ً في نطاق الثقافة العربية، فهو يرتبط بكل ما هو جديد، ولم ينحصر في مجال معين، وعليه فالمعنى الاصطلاحي للحداثة يكمن في أنّها عبارة عن نمط في الحياة، والأفكار، والآراء، وذلك من قبيل المنهج التغيري أو الانقلابي غير الثابت، والذي يدعو إلى التجديد باستمرار، ويرفض الانصياع لكلّ ما هو قديم، ويدعو إلى التطور والتجديد، وإعادة بناء الإنسان من جديد على نحو أفضل مما كان عليه في السابق، و أمّا الحداثة عند الغرب فقد بدأت في أواخر القرن التاسع عشر على يد الشاعر الفرنسي بودلير، صاحب ديوان ( أزهار الشر )، فقد رأى الكثيرون من الأدباء الغربيّين أنّ الحداثة هي عبارة عن التعصب للحاضر ضد الماضي، فهي لا تميل إلى السلطة القديمة أو إلى كل ما ينتمي إلى الحقبة الماضية، بقدر ما تُمجّد الحاضر وتسعى إلى الانفتاح على كل جديد مُقبل .
أمّا الحداثة عند العرب فلم يتبلور مفهومها إلا بعد الحرب العالمية الثانية، وخاصة عند ظهور جماعة الفن والحرية، التي رفعت شعار تحرير الفن من الدين والوطن والجنس، فمفهومها عند العرب هو إبداع وخروج عمّا سلف، وهي لا ترتبط بزمن معين أو باتباع أشكال تعبيرية شعرية معينة، بل هي اتخاذ موقف معين تجاه الحياة بشكل عام، وتجاه الشعر بشكل خاص.
أجل إن الحداثة شعور جديد وموقف تجاه الشعر بشكل خاص لأن الإبداع إبداع ٌ لامجال فيه للزيف أو التزوير، ولأن الزمن كفيل أن يخلد القصيدة الحقيقية الراسخة في الوجدان، والمتجددة التي تخلد مع الزمن لا تموت، وأما القصيدة الآنية المصنوعة التي لا تمتلك مقومات الشعر الحقيقي، فسرعان ما تتعرض للفناء، وسرعان ما تذروها أعاصير الموت ورياح النسيان.
             

العدد 1180 – 5 -3 -2024      

آخر الأخبار
دير الزور.. منظمات مانحة تدعم تنفيذ مشاريع المياه خطوط الصرف الصحي خارج الخدمة في الحسينية.. والبلدية تعمل على الحل انتقادات مصرية لمطالبات ترامب بشأن قناة السويس الفاعل مجهول.. تكرار سرقة مراكز تحويل الكهرباء في "عرطوز والفضل" Shafaq News : مؤتمر للأكراد لصياغة موقف موحد لمستقبل سوري دمشق وبغداد.. نحو مبدأ "علاقة إستراتيجية جديدة" "الأونروا": نفاد إمدادات الطحين من غزة الاحتلال يقتل 15 صحفياً فلسطينياً بأقل من 4 أشهر درعا: مناقشة خطط زراعة البطاطا في المحافظة خطة لدعم التجارة الخارجية وإرساء اقتصاد السوق الحر في ظلّ تداولات وهمية.. سعيد لـ"الثورة": وضع إطار تشريعي للتعامل بـ"الفوركس" الفنادق التراثية.. تجربة مشوقة للإقامة داخل المدن القديمة "مياه دمشق وريفها" تقرع جرس الإنذار وترفع حالة الطوارئ "طرطوس" 20 بالمئة إسطوانات الغاز التالفة "نيويورك تايمز" ترجح أن يكون "وقود صاروخي" سبب الانفجار في ميناء إيراني تطوير خدمات بلديات قرى بانياس وصافيتا "صحة درعا".. أكثر من 293 ألف خدمة خلال الربع الأول هل تُواجه إيران مصير أوكرانيا؟ نمذجة معلومات البناء(BIM) في عمليات إعادة إعمار سوريا "رؤية حوران 2040".. حوار الواقع والرؤية والتحديات