“أديب العمل الواحد”

في عالم الأدب تصادفنا ظاهرة فريدة مثيرة للجدل تعرف بـاسم: أديب العمل الواحد، إذ يطلق هذا المصطلح على الكاتب الذي اشتهر بعمل أدبي واحد فقط، سواء أنتج غيره أم لم يفعل، فيثير الجدل بالتالي حول قيمة عمله الأدبي الواحد هذا، ومكانته في تاريخ الأدب، فهل يا ترى ترك كاتبه بصمةً مميزةً على الرغم من إنجازه أو عدم إنجازه لأعمال أخرى تذكر، وخلَّف أثراً في نفس قارئه؟ أم أنه كبحّار لم يجد سوى قارباً صغيراً ضعيفاً ليعبر به المحيط فتهاوى أمام أول عاصفة تثور في وجهه؟.
هذا الأديب الذي لم ينجز في مسيرته سوى عملاً واحد نال بفضله ما يمكن تسميته بأديب العمل الواحد، يشكل حالة فريدة في عالم الأدب، فعلى العكس من الكتّاب، والأدباء الذين يتميزون بإنتاجية عالية، وتنوع في أعمالهم، يبقى هذا الأديب معروفاً بعمله الواحد الذي إما أن يسقط في بئر النسيان لأن صاحبه أخفق، وبقي الأمر لا يعدو كونه تجربة، وتحقيق حلم لكاتبه، أو أن يعتبر تحفة فنية متفردة في حد ذاتها فيخلد.
فعلى ساحة الأدب العالمي يبرز لنا مثل هذا الأديب كشخصية أدبية جذابة، ومثيرة للاهتمام، ولكن في حالة واحدة هي عندما يكون لعمله اليتيم قيمة استثنائية تميّز قلمه بالتفرد، فيحمل بالتالي أثره الأدبي في طياته الفكرة المتكاملة، وتجربة الحياة النابضة، وفلسفة فريدة تنجح في تحقيق التوازن المثالي بين الأدوات اللغوية المتقنة والأساليب السردية الفريدة، وأهمية المضمون، فيكون عند ذلك قد قدم للقرّاء مغامرة فكرية تأسر العقول، وتثير العواطف.. فالقيمة الحقيقية للأدب تكمن في قدرته على التأثير، والتحول، وتركِ انطباعٍ قويٍ لدى القرّاء.
أما الأسباب وراء ظاهرة أديب العمل الواحد فهي أكثر من واحدة، إذ لا توجد قاعدة ثابتة لها، فكل حالة منها قد تكون فريدة، ومختلفة، إذ ربما يعود الأديب إلى الكتابة في وقت لاحق في حياته، أو قد يكتفي بالعمل الواحد للتعبير عن نفسه ورؤيته الفنية، ولا يجد الحاجة بعده للكتابة المستمرة.. أو قد يصاب بمخاوف الإبداع والتوقف، حيث يخشى من عدم قدرته على مواصلة الكتابة وتقديم أعمال أدبية متميزة بعد العمل الواحد، ويشعر بالضغط والمسؤولية لتقديم أعمال تفوق أو تكون على مستوى العمل السابق ذاته بعد أن يكون قد أصيب بتجربة الكتابة المكتملة التي يشعر معها بالرضا، والإنجاز، ويرغب في الاحتفاظ بهذا العمل كتجربة مكتملة، ومتميزة لا داعي لتكرارها بعد أن أعطى تعبيراً كاملاً عن مشاعره وأفكاره.. وهذا الخوف قد يدفعه للابتعاد كلياً عن الكتابة.
هذا كله يعتمد على الاختيارات الشخصية، والرؤية الفنية، ومهما كانت الأسباب فعلينا أن نحترم قرارات الكتّاب والأدباء، واختياراتهم فيما يتعلق بأعمالهم الإبداعية، فالكتابة هي عملية شخصية، وفردية، ويمكن أن تتأثر بالعديد من العوامل سواء الداخلية، أو الخارجية، إذ قد تكون الأسباب صعوبات في النشر تجعل من التركيز ينصب على عمل واحد فقط، أو أنها ظروف شخصية أعاقت، أو أنها معايير للنجاح تغيرت فلم يعد عدد الأعمال الجيدة هو المقياس الوحيد للنجاح.. كما هو حال القصة القصيرة كأحد أشكال الأدب الواحد المعروفة حيث يتم تقديم فكرة بسيطة، وقوية من خلال أحداث محدودة تنتهي في مسار غير متوقع.
ولا يقول لي أحد عن هذا النوع من الأدباء أنهم موهبة فذة، وأصحاب رؤية استثنائية للعالم لا تتكرر، أو أنهم يجسدون فكرة الجودة على حساب الكم، حيث يعتبرون العمل الواحد محطة نهائية، ومتكاملة لموهبتهم الأدبية، وأنه يمكن أن يكون لهذا الأديب صاحب العمل اليتيم قيمة استثنائية بما أنه كان يركز على تطوير عمله وتحسينه بشكل مكثف، أو أن هذا إنما يعكس تركيزه العميق على التفاصيل، والجودة العالية التي حققها في الشكل النهائي لمنجزه الأدبي حتى ليُعتبر كمعيار للجودة الأدبية بسبب ما يحدثه من تأثير كبير على الأدب، والثقافة بشكل عام.
لا يقول لي أحد هذا لأن أغلب من نالوا الجوائز الأدبية الرفيعة، والأرفع منها لم يكونوا قد قدموا أثراً واحداً، بل إن من الجوائز القيّمة ما تُمنح على مجمل الإنتاج الأدبي والذي قد يكون موزعاً على عشرات، أو مئات المؤلفات، وهي جميعاً تحقق التفرد، والكمال. وقد يُعرف كاتب ما بشكل خاص بسبب رواية، أو قصة له اشتهرت لتصبح وحدها عنواناً له، وليلتصق اسمها به دوناً عن باقي أعماله كإسم الوردة الذي أصبح اسماً لكاتبها: (أمبرتو إيكو).
إن تسمية (كاتب) أو (أديب) لا تتأتى إلا بعد الممارسة، وتأكيد فعل الكتابة، والأدب من خلال ما ينتج من نصوص، وأعمال.. إذ لا يمكن أن أصف كاتباً بأنه روائي عند إصدار روايته الأولى لأن هذه التسمية لا تُكتسب إلا بالتكرار، والممارسة.. والاستمرارية هي جزء أساسي من الموهبة، فالموهبة الأكيدة ترفض الصمت وهي في حالة بحث مستمر عن منبر تستطيع من خلاله أن ترفع الصوت عالياً.
ومع ذلك، ينبغي عدم التغاضي عن أهمية هذا العمل الواحد الذي قد يكون معبراً عن موهبة، أو متميزاً برؤية مختلفة، وقد ينال جائزة مرموقة، وينال مؤلفه شعبية إلا أن هذا لا يجعله في عائلة بل إنه سيظل يتيماً وسيظل صاحبه يُعرف في الأوساط ويُشار إليه بأنه لم يفلح إلا في إنتاج عمل كتابي واحد أهله لينال لقبه.
ومع ذلك تظل ظاهرة أديب العمل الواحد ظاهرة تثري تاريخ الأدب، وتضيف إليه تنوعاً، وتميزاً.. ويظل إتقان العمل الأدبي وجعله ذا قيمة حقيقية مطلباً أكيداً حتى لو كان للعمل الوحيد الذي سيُنجزه الكاتب في حياته.

* * *

آخر الأخبار
المركزي يصدر دليل القوانين والأنظمة النافذة للربع الثالث 2024 تحديد مواعيد تسجيل المستجدين في التعليم المفتوح على طاولة مجلس "ريف دمشق".. إعفاء أصحاب المهن الفكرية من الرسوم والضرائب "التسليف الشعبي" لمتعامليه: فعّلنا خدمة تسديد الفواتير والرسوم قواتنا المسلحة تواصل تصديها لهجوم إرهابي في ريفي حلب وإدلب وتكبد الإرهابيين خسائر فادحة بالعتاد والأ... تأهيل خمسة آبار في درعا بمشروع الحزام الأخضر "المركزي": تكاليف الاستيراد أبرز مسببات ارتفاع التضخم "أكساد" تناقش سبل التعاون مع تونس 10 مليارات ليرة مبيعات منشأة دواجن القنيطرة خلال 9 أشهر دورة لكوادر المجالس المحلية بطرطوس للارتقاء بعملها تركيب عبارات على الطرق المتقاطعة مع مصارف الري بطرطوس "ميدل ايست منتيور": سياسات واشنطن المتهورة نشرت الدمار في العالم انهيار الخلايا الكهربائية المغذية لبلدات أم المياذن ونصيب والنعيمة بدرعا الوزير قطان: تعاون وتبادل الخبرات مع وزراء المياه إشكاليات وعقد القانون تعيق عمل الشركات.. في حوار التجارة الداخلية بدمشق بمشاركة سورية.. انطلاق فعاليات المؤتمر الوزاري الرابع حول المرأة والأمن والسلم في جامعة الدول العربي... موضوع “تدقيق العقود والتصديق عليها” بين أخذ ورد في مجلس الوزراء.. الدكتور الجلالي: معالجة جذر إشكالي... بري: أحبطنا مفاعيل العدوان الإسرائيلي ونطوي لحظة تاريخية هي الأخطر على لبنان عناوين الصحف العالمية 27/11/2024 قانون يُجيز تعيين الخريجين الجامعيين الأوائل في وزارة التربية (مدرسين أو معلمي صف) دون مسابقة