الثورة-هفاف ميهوب:
عندما تساءل الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي «إدغار موران» في آخر كتبه «دروس قرنٍ من الحياة»، عمن يكون وعن هويته، لم يكن يهدف إلى التعريف بنفسه، بل بما اكتسبه من الحياة التي عاشها طويلاً، وجعلته يقول عن هويّته:
«أنا إنسانٌ، هذا هو اسم ذاتي، لكنني أحمل صفات عديدة، تتفاوت أهمّيتها بحسب الظروف.. أنا مواطنٌ عالمي، ابن الأرض ـ الوطن. هل يسع المرء أن يكون كلّ هذا في الوقتِ نفسه؟!. هل يسعه أن يحمل هويّات عديدة؟.
الجواب: يحمل كل إنسان هوية عائلته، وهوية قريته أو مدينته، وهويّة منطقته أو إثنيّته، وهوية بلده، وأخيراً هوية قارئه الأوسع نطاقاً».
لم يكن «موران» وحده من قدّم نفسه بهذه الطريقة، فمنذ بداية التاريخ، والفلاسفة يقدّمون مفهومهم حول الأنا، وارتباطها بالوجود والعالم والهوية.
حتماً، تختلف الإجابة بين فيلسوفٍ وآخر، اعتماداً على فهمِ كلّ منهم لنفسه، ورأيه أو موقفه من انتمائه وهويته، أو حتى من الانتماءات العديدة التي انعكست على فلسفته.
أما أوّل من أطلق هذا السؤال، ففلاسفة اليونان أمثال «سقراط» و»أفلاطون» و»أرسطو» وغيرهم ممن أجاب كلّ منهم بفلسفةٍ ميّزته، وجعلته ينتمي إلى العالم بأكمله، إلى أن باتت العالمية هويّته.
إنها الهوية التي عّرِفوا بها قديماً، ويعُرِّف بها من تلاهم، فها هو الفيلسوف الفرنسي «ميشيل فوكو»، يجيب في أحد الحوارات التي طُلب منه فيها التعريف بنفسه:
«إنّني صانعُ أسهمٍ ناريّة. أصنع شيئاً صالحاً في النهاية.. إن صانع الأسهم الناريّة هو جيولوجي أولاً، يتأمّل طبقات الأرض وثناياها وصدوعها.. ما الذي يسهُل حفرهُ؟. مالذي سيصمُد؟. ينظر إلى القلاعِ كيف انغرزت في الأرض، ويتفحّص التضاريس التي يمكن استعمالها، للتخفّي أو لشَّن الهجوم».
بيد أنه مافعله هذا الفيلسوف، فقد شنّ هجوماً كبيراً، ولكن على السطورِ التي قد تكون سطوره، ودون أن يكتفي بالانتماء إلى حفرياته، بل وإلى الحوارات الخطابية التي لا تحتاج لشنّ الحرب على سطورها.
هذا عن «فوكو» أما عن «جاك دريدا» الذي اعترف أكثر من مرّة، بأنه يكره الحديث عن ذاته، فقد قال في بحثه عن هويته:
«أكتب بحثاً عن هويةٍ ما، فأنا مهتمٌ بفقدانِ الهوية، وبما يجعل الهوية مستحيلة، لأن السيرة الذاتية بالمعنى الكلاسيكي، تفترض أن المتكلّم يعرف من هو، ويتماهى مع نفسه. أي مع هوية معينة، ففي بعض اللغاتِ تتطابق إمكانية قول «أنا» مع فعل الكتابة بصفةٍ عامة.
همّ الهوية والانشغال بها، يتولّد أصلاً عن عدم وجود هذا «الأنا» بأمل الوصول إليه، فلو كان موجوداً، لَمَا بحثنا عنه ولَمَا كتبناه، فإذا تمكّنت من تحديد هويتي، لن يبقى أي معنى لأن أكتب أو أرسم، ولأن أعيش أيضاً»..
بكل الأحوال، يبقى السؤال عن الأنا والهوية، من أهم وأعمق الأسئلة التي أطلقها الفلاسفة على مرّ العصور.. يبقى كذلك مثلما الإجابة عنه، فليس هناك أكثرَ جوهرية من تجربة «أنا» في سياقِ حياة مملوءة بالبحثِ عن الحقيقةِ، وضمن سؤال وإجابة، رآهما الفيلسوف الأميركي «جاكوب نيدلمان»:
«هذا السؤال وهذه الإجابة، يتوازيان في النهاية مع بعضِهما بعضًا، ويقتربان أكثرَ فأكثرَ من بعضهما بعضًا، حتى يصبح السؤال هو الإجابة، والإجابة هي السؤال»..