الثورة- عمار النعمة:
وأنا أطالع بعض الكتب في مكتبتي الخاصة ظهر أمام عيني كتاب فيه إهداء خطته لي الكاتبة والأديبة الدمشقية الراحلة مهاة فرح الخوري أثناء زيارتي لها وحواري معها حيث حدثتني عن والدها الأديب ميشيل فرح الذي كان له دور أساس في حياتها الأدبية حيث وعته مقبضاً على قلم وأمامه ورقة أو دفتر .
يومها أهدتني الكتاب الذي جاء بعنوان :(ميشيل فرح، معلماً..أديباً) وفيه صفحات طويلة من حياته ومن نتاجه الأدبي، فهو المعلّم والمربّي أستاذ اللغة العربية وأدابها في ثانويات انطاكيا ودمشق خلال نصف قرن ونيف.. هو ميشيل بن جبران بن فرح ابو داوود المعروف اختصاراً باسم ميشيل فرح، ينتمي جده فرح لآل ابي داوود في حاصبيا جنوب لبنان حاليا، وجنوب غرب ولاية دمشق آنذاك، نزح إلى دمشق في أواخر العقد الثالث أو أوائل العقد الرابع من القرن التاسع عشر واستقر في حي الميدان وهو بالتالي الجد الأكبر لعائله فرح ابو داوود في دمشق والمغتربات .
ولد ميشيل في حي الميدان المذكور (سقاق الموصلي) وكان الابن الرابع لوالديه، في البداية ولفترة محدودة دخل ميشيل إلى (الكتّاب) مدرسة ابتدائية غير مكتملة في الحي وما كان يذكره عن تلك المرحلة يشير الى أن (الكتّاب) المذكور كان مدرسة رسمية .
انتقل بعدئذ إلى المدرسة الروسية العائدة للطائفة الارثوذكسية في حي الميدان حيث اتيح له أن يعلم باللغة الروسية بالاضافة للمواد الأخرى التي كانت تدرس انذاك : اللغة العربية والحساب ولا سيما الحساب الذهني واللغة الفرنسية والاجتماعيات، وقد ظهر ميل التلميذ ميشيل بخاصة للحساب واللغة العربية وقد احتفظ لعقود لاحقة بأطيب الذكريات لمعلميه في تلك المرحلة
ولا سيما الأستاذ (خليل الله ويردي)، مدرس اللغة العربية الذي صدف أنه في أواسط الثلاثينيات من القرن 20 تجاورالاستاذ ميشيل في السكن معه في حي القيمرية فتجددت الصلة بينهما وكان ميشيل يعبر عن احترامه وتقديره كلما زار أو التقى معلمه السابق الذي كان قد أصبح شيخاً جليلاً وكان الاستاذ خليل يعبرعن محبته وتقديره الخالصين لتلميذه السابق الذي أصبح استاذاً ذا سمعة عطرة للمادة نفسها (اللغة العربية) .
انتقل ميشيل إلى المدرسة العائدة للطائفة الارثوذكسية في حي القيمرية والمعروفة باسم الأسية ومن المعروف أن مدرسة الأسية المذكورة هي أقدم ثانوية في دمشق وكانت تحظى بعناية النيّرين من أبناء الطائفة الارثوذكسية .
نظراً لتفوقه في التخرج من الآسية أوفده صاحب الغبطة البطريرك غريغوريوس الرابع إلى انطاكيا للتدريس في مدرستها العائدة للطائفة الارثوذكسية ولم يكن قد أتم 17 من عمره، درس هناك عدة مواد أهمها اللغة العربية وأدابها والرياضيات، استمر بالتدريس أربع سنوات دراسية كاملة رغم ما كان يكتنف مهمته هناك من متاعب، ولكن رجولته وايمانه العميق برسالته التعليمية ساعداه على مواجهة ما يكتنفه من متاعب ولاسيما في المرحلة الاولى من اغترابه وهكذا احتفظ له أهل انطاكيا الاكارم من التلاميذ واهاليهم ومعارفهم كما احتفظ لهم بأطيب الذكريات وكان لمدينتهم بخاصة ولمنطقتهم لواء الاسكندرون بطبيعتها الخيّرة المعطاءة مكانة مميزة في قلبه ووجدانه وكان عزاؤه فيما انتابه من حزن وألم على سلخ اللواء عن الوطن الام تجدّد صلته مع الانطاكيين الذي نزحوا الى دمشق من تلاميذه القدماء وأصدقائه وأبنائهم .
ولكن على التوازي مع ظروف إقامة ميشيل في انطاكيا وانشغاله بشكل تلقائي بمهمته التعليمية لا يغيبن عن البال ما اكتنف هذه الحقبة الهامة من حياته من متغيرات على الصعيدين العام والخاص فقد اندلعت الحرب العالمية الأولى عام 1914 وأصبحت الدولة العثمانية طرفاً أساسياً فيها، مما اثر تاثيراً بالغاً على جميع المواطنين بالإضافة إلى أن الشباب والرجال كانوا مطلوبين إلى الخدمة في الجيش العثماني، إلى جانب ذلك توفي والد ميشيل عام 1915 وكان يعبّرعن ألمه كلما تذكر أنه لم يستطع أن يودعه الوداع الأخير وأن يشترك في تشييعه بسبب وجوده في انطاكيا .
كان يترتب على ميشيل أن يشق طريقه ضمن الظروف العامة عقب عودته إلى دمشق، ونظراً لحسه الوطني والقومي المرهف لم يفسح المجال للأوضاع المؤلمة السائدة انذاك أن تنال من ارادته وصموده ….. مارس ميشيل خلال هذه الحقبة التعليم في مدارس حي الميدان كما أسهم بتأمين الرعاية الادارية والمالية لتلك المدارس بالتعاون مع أبناء جيله النيّرين في الحي، فسعى معهم لإحياء جمعية (الراعي الصالح) التي كانت تهدف للعناية بالتربية والتعليم في اطار الحي، وإلى جانب ذلك باشر القيام بنشاطات ثقافية ووطنية عديدة فانتسب للنادي العربي في بداياته، وكان في عداد مؤسسي النادي الأدبي في حي القيمرية، وقبل عام 1922 عضواً في الرابطة الأدبية، وقد اتيح له خلال ذلك أن يلقي العديد من المحاضرات وأن يشترك بالعديد من النشاطات الثقافية والوطنية والاجتماعية .
استمر ميشيل بأعماله العلمية والوطنية وثابرعلى التعليم بشكل دائم في الآسية وتولى ادارتها بضع سنوات خلال هذه الحقبة، كما استمر بالتدريس في المدارس الخاصة وتابع المراقبة والتصحيح في امتحانات الشهادة الثانوية والشهادة الاعدادية السورية، بالإضافه لذلك وبناء على دعوة من زملائه باشر اعتباراً من عام 1937 التدريس في التجهيز الثاني الحلبوني، ثم في التجهيز الأولى ثانوية جودت الهاشمي .
نعم، كل الدلائل تشير إلى أن لمهمة التدريس بالنسبة لميشيل فرح صفة القداسة وقد استحوذت هذه المهمة خلال جميع مراحل حياته الفاعلة على ما يقل عن تسعة أعشار طاقته الحية، فكان خلال أدائه هذه المهمة مسقطا من مخيلته كليا اي ارتباط بما يبذله من جهد ويستهلك من وقت من جهة، وما يتقضاه من أتعاب من جهة أخرى، وقد شهدت الأجيال المتعاقبة من تلاميذه خلال خمسة عقود ونيف على تقيده الدقيق بالدوام وتفادي إضاعة أي دقيقة أثناء الحصة الدراسية والجدية والحزم في ضبط الصف، والدقة المتناهية في تصحيح وظائف الطلاب والعدالة المطلقة في تقديرالدرجات، كما أنه كان متميزاً في أسلوبه التدريسي وإلى جانب ذلك كان ظريفاً لطيف المعشر محبباً لدى معارفه وأصدقائه ..
وخلاصه القول: ميشيل فرح مواطن مخلص في كلّ ما يقول ويفعل، رحلة حياته حافلة بالعطاء خلال خمسه عقود ونيف، تنوّع نتاجه الأدبي والفكري بين أجناس عديدة: النثروالشعر والوجدانيات وأدب المناسبات والتجارب الأدبية المستوحاة من الظروف السياسية والاجتماعية والعائلية بما يكتنفها من أفراح وأتراح .
لا شك أن القارئ سيلاحظ أثر تصفحه هذا الكتاب تنوع أسلوب النتاج وتطوره بين سني الشباب الأولى وبين المسيرة التالية امتداداً للأيام الأخيرة من عمر طافح بالعمل والجهد بهدف تحقيق المبادئ والمثل التي نزل المعلم نفسه لأجلها.