الثورة- منهل إبراهيم:
تسير الدبلوماسية السورية بخطوات واثقة نحو الانفتاح على العالم، من خلال إعادة صياغة علاقاتها الدولية لتجاوز مرحلة العزلة إبان حكم النظام المخلوع، وتعمل دمشق على فتح آفاق تعاون متوازن مع القوى الكبرى، ومنها جمهورية الصين الشعبية.
وشكلت الصين في سنوات الحرب إحدى أبرز داعمي النظام المخلوع سياسياً، مستخدمة حق النقض “الفيتو” مراراً إلى جانب روسيا في مجلس الأمن الدولي.
وبعد سقوط النظام المخلوع، رفعت السفارة السورية في بكين بسرعة العلم السوري الجديد، وأصدرت بياناً يحتفل بانتصار الثورة، دون ذكر الدعم الدبلوماسي الصيني لحكم المخلوع، وأضافت السفارة “نؤكد أننا نعتمد على الدور الصيني في إزالة العقوبات الظالمة على سوريا، ولاحقاً في مهمة إعادة الإعمار”.
وأعلن وزير الخارجية والمغتربين أسعد الشيباني مؤخراً عزمه إجراء أول زيارة رسمية إلى الصين مطلع تشرين الثاني المقبل بدعوة من بكين، لافتاً إلى أن العلاقات مع الصين “تعود إلى مسارها الصحيح بعد سنوات من اصطفاف بكين إلى جانب النظام المخلوع”.
وتدرك القيادة السورية أن الانفتاح على العالم يتطلب موازنة دقيقة بين المصالح الوطنية ومصالح الحلفاء والأصدقاء المتناقضة، ويقول الوزير الشيباني في هذا المنحى: إن التحركات الدبلوماسية السورية “هادئة ومخطط لها، ولا تتضمن أي تنازل عن حقوق السوريين”، مؤكداً أنها تقوم على الحوار والتعاون بعيداً عن سياسة المحاور.
تصحيح مسار العلاقات
ويؤكد موقع the cradle أن القيادة السورية تسعى اليوم إلى استقطاب بكين من منطلق مختلف، فهي ترى في الصين شريكاً اقتصادياً ضخماً قادراً على الإسهام في مشروعات إعادة الإعمار، التي تقدر تكلفتها بنحو 900 مليار دولار، كما تأمل دمشق بالحفاظ على موقف صيني داعم لها في مجلس الأمن الدولي، كون الصين من الأقطاب الكبرى في العالم.
من جانبها، تشير شبكة الأخبار البريطانية “بي بي سي” إلى أنه “بعد ثلاثة أشهر تقريباً من الإطاحة ببشار الأسد، أجرت بكين أول اتصال لها مع القيادة السورية، ثم بعد أسابيع عديدة من الصمت، التقى السفير الصيني في دمشق بالرئيس السوري أحمد الشرع ومسؤولين كبار آخرين في القصر الرئاسي، مشيرة إلى أن القيادة الجديدة في سوريا تجد نفسها في مواجهة العديد من التحديات لإعادة بناء بلد دمرته حرب استمرت لأكثر من عقد من الزمن”.
وأضافت “بي بي سي” أن “علاقة الحكومة السورية الجديدة مع الصين تتسم بتعقيد من نوع خاص، إذ دعمت بكين باستمرار حكومة الأسد سياسياً، على الرغم من وحشية حكمه، لكنها لم تشارك في أي عملية عسكرية لدعم النظام المخلوع على الأراضي السورية”.
وتلفت الشبكة البريطانية إلى البراغماتية المتواصلة، فيما يخص التجارة بعيداً عن السياسة والحروب، وعليه فإن الوجود الاقتصادي لبكين من المرجح أن يكون عميقاً في سوريا الجديدة، كما كان الحال في إدلب خلال السنوات الأخيرة، فعلى الرغم من أن الدولة الصينية لم تعترف رسمياً بأي شكل من أشكال حكم المعارضين في إدلب قبل سقوط النظام السابق، إلا أن ذلك لم يمنع الشركات المصنعة الصينية، والعديد منها شركات خاصة من الاستفادة من الطلب العالي في تلك المنطقة على سلعها ذات الأسعار المعقولة.
وقد رزحت البنية التحتية والاقتصاد في إدلب تحت ضغط هائل خلال فترة الحصار، ليس فقط بسبب الأضرار التي خلفتها الحرب، وإنما أيضاً بسبب وجود حوالي مليوني سوري نازح داخلياً لجأوا إلى هناك.
وتشير البيانات التي جمعتها وكالة “ريتش” للأبحاث، وحللتها “بي بي سي” في عام 2022 إلى أن الصين كانت المصدر الخارجي الرئيسي لـ 10 من أصل 17 عنصراً أساسياً ضرورياً لتوفير المأوى في إدلب.
وأضافت شبكة “بي بي سي” أن “المنتجات الرخيصة من الصين وتركيا وجدت سوقاً جاهزاً تمثل في اقتصاد إدلب خلال الحرب، ومع انتقال الصين إلى التصنيع المتقدم في السنوات الأخيرة، فإن منتجاتها الأكثر تطوراً لبت كذلك العديد من الاحتياجات الملحة في المنطقة.
السلع الصينية
وأكدت الشبكة البريطانية أن هجمات النظام المخلوع على البنية التحتية للمياه دفعت الكثير من سكان إدلب إلى الاعتماد على المياه المعبأة، وتتم تصفية مياه “الكوثر” وهي علامة تجارية محلية بارزة، وتعبئتها في إدلب على خط إنتاج تم شحنه من الصين، وظهرت شبكة من شركات التصدير السورية في المدن التجارية الجنوبية الصينية مثل ييوو وغوانغتشو، لتجارة هذه المنتجات، حيث تقوم بتوريد السلع الصينية وشحنها إلى سوريا.
ومن المرجح أن تزدهر نشاطات العديد من التجار الذين لديهم روابط مع الموردين الصينيين في سوريا الجديدة، إذ ينشر البعض منهم على وسائل التواصل الاجتماعي حول كيفية مساهمة أعمالهم في إعادة الإعمار في البلاد.
ممر المترين
ويؤكد محللون غربيون لشبكة الأخبار الأميركية “سي إن إن”، أنه “ليس من المستحيل إيجاد مسار يمكّن سوريا والصين من تعزيز علاقاتهما، ويبدو أن الصين تتبع ما وصفه وزير الخارجية وانغ يي بـ ” ممر المترين”، أي الحفاظ على مسافة احترام متبادل مع صون مصالحها الذاتية”.
بموازاة ذلك أكدت صحيفة الإندبندنت البريطانية أن “سوريا الجديدة لم تعارض وجود علاقات مع الصين، والأمر- بحسب مراقبين- يواجه تحديات يمكن تذليلها، ذلك لأن التنين الآسيوي كان يدعم الدولة السورية في زمن الأسد، ودمشق اليوم يمكن أن تجني منافع عدة من التعامل والتعاون مع بكين”.
ولفتت الإندبندنت إلى أن رد فعل بكين على سقوط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024 كان متحفظاً، وركز بيان الخارجية الصينية حينها على “ضرورة ضمان سلامة رعايا البلد الآسيوي وإيجاد حل سياسي يعيد الاستقرار إلى سوريا في أسرع وقت ممكن”، لكن البيان أيضاً ترك الباب موارباً أمام إمكان التعامل مع القيادة الجديدة في دمشق مستقبلاً، عندما أشار إلى أن “العلاقات الودية للصين مع سوريا تصب في مصلحة الشعب السوري بأكمله”.
نفوذ متعدد الأوجه
وقالت الصحيفة البريطانية: “للصين مقعد دائم في مجلس الأمن يمكن أن تعوق به الخطوات الأممية الرامية لدعم الحكومة السورية الجديدة، كما أن لها حلفاء في المنطقة تضرروا من سقوط الأسد مثل روسيا وإيران، ولديها مخاوف أخرى، وعلى رغم ذلك تبحث الصين عن نفوذ متعدد الأوجه في منطقة الشرق الأوسط يستدعي منها المرونة والحكمة في التعامل مع سوريا الجديدة، وقيادتها”.
وتقول مجلة “الصين اليوم”: إن الصين على خلاف روسيا وإيران كانت تدعم الدولة السورية وليس نظام الأسد، وهذا أمر ستدركه القيادة السورية الجديدة لدمشق، ولن يكون لديهم مشكلة في التعامل مع بكين وبناء علاقات جيدة معها، بخاصة أنهم في حاجة إليها ليس لأغراض سياسية فقط وإنما اقتصادية وتنموية أيضاً.
وترى المجلة الصينية أن “دمشق ستحرص بنفسها على تعزيز العلاقة مع بكين ولن تسمح لأي شيء أن يعكر صفو العلاقة مستقبلاً، ذلك لأن الصين تقود مجموعة من المبادرات في العالم والشرق الأوسط تخدم الحكومة السورية الجديدة وتتيح لها تعزيز التعاون مع محيطها وكثير من دول العالم”.
ولا تعتقد مجلة “الصين اليوم” أن الأوروبيين سيحاولون عرقلة علاقات الصين مع سوريا، على عكس الأميركيين الذين لا يفضلون أي نفوذ للتنين الآسيوي في منطقة الشرق الأوسط، ولكن القول الفصل في هذا الشأن على حد تعبيرها، لن يكون برغبة الولايات المتحدة في تحجيم الصين بالمنطقة، وإنما قدرتها على ذلك، وقد أثبتت التجربة برأيها، أن لبكين علاقات قوية مع دول عربية وإقليمية وظفتها بنجاح خلال الأعوام الماضية”.
صفقات كبرى
وبرأي عضو الجمعية الصينية لدراسات الشرق الأوسط نادر رونج وهان، أوضحت بكين سياستها في العلاقات مع سوريا الجديدة عبر المؤتمر الصحافي الذي عقدته الخارجية الصينية في فبراير الماضي، مشدداً على أن السياسة الخارجية لبلاده تجاه دمشق مستقلة عن مواقف الروس والإيرانيين، كما لفت إلى أن الدعم الصيني لحكومة الرئيس الشرع يعتمد بصورة كبيرة على مدى تقديم حلول سياسية ناجعة للانتقال بالبلاد من حقبة إلى أخرى لمصلحة الشعب السوري بأكمله.
وهناك طريقتان لتدفق رأس المال الصيني إلى سوريا، بحسب ما صرح جيسي ماركس، الرئيس التنفيذي لشركة “رحلة للأبحاث والاستشارات”، وهي شركة استشارية مقرها واشنطن تركز على الشرق الأوسط وآسيا، لموقع “المونيتور”، الأولى هي “الشركات الخاصة، ورواد الأعمال الصينيون”، والثانية هي “رأس المال الحكومي”، مشيراً إلى أن هذا الأخير سيتيح “صفقات كبرى”.
وانضمت سوريا عام 2022 إلى مبادرة “الحزام والطريق”، لكنها لم تستقطب استثمارات كبيرة من الشركات الصينية نتيجة أسباب عدة على رأسها العقوبات الغربية، وقال خبير الشؤون الآسيوية بيل فيجيروا لوكالة “رويترز”: إن التنين الآسيوي لا يمكنه أن يحل محل الغرب سياسياً أو اقتصادياً أو عسكرياً في الشرق الأوسط، كذلك فإن قدرات الصين المالية في 2025 أقل مما كانت عليه عندما أطلقت “الحزام والطريق” قبل 13 عاماً، وهي اليوم تعيد تقييم استثماراتها الخارجية.