الثورة – حسين روماني:
التقت ظلال الحجر برائحة التاريخ اليوم في رحاب المتحف الوطني بدمشق، إذ افتتحت مديرية التراث اللامادي في وزارة الثقافة فعالية ثقافية احتفالية بمناسبة اليوم العالمي للتراث الثقافي اللامادي، تحت شعار أقرّته منظمة اليونسكو: “التراث الحي.. قصة إنسان وصمود ومعارف نتوارثها جيلاً بعد جيل”.
لم يكن الاحتفال مجرد مناسبة بروتوكولية، بل بدا حواراً بين الماضي والحاضر، تشابكت الأيدي التي صنعت الحرفة والأصوات التي لاتزال ترويها.
فسيفساء تنطق بالحجر
كانت البداية بافتتاح معرض الفسيفساء السوري للفنان هشام كيلاني، ابن مدينة حماة، والذي كرّمته وزارة الثقافة تقديراً لمسيرته الطويلة في إحياء هذا الفن العريق. وفي كلمةٍ ألقاها أمام الحضور، قدّم كيلاني نفسه ببساطة فنانٍ قضى عمره في مزج الألوان بالحجر:«الفن عندي ليس دراسة أكاديمية، بل جينات متوارثة طوّرتُها بالتجربة والممارسة»، قالها بهدوء العالم الذي يرى في الحجر ذاكرة، وفي النقطة الملونة حياةً كاملة.
كيلاني، الذي عُرف بلقبه “رجل السلام ومخترع فن التشكيل الرقمي بالحجر”، عرض في المعرض لوحاتٍ توثق مراحل من التاريخ السوري والديني، منها لوحة السيدة مريم العذراء، ومعجزات السيد المسيح، ومشهد عاشوراء وغيرها، كل لوحة كانت تتكوّن من آلاف القطع الحجرية الصغيرة التي لا يتجاوز بعضها نصف ميليمتر، تتداخل كما لو أنها نبضاتٌ من روح المكان السوري ذاته.
إحياء الحرفة والذاكرة
إلى جانب المعرض، أقيمت ورشة تدريبية بإشراف الفنان كيلاني، وبتنظيم رئيس قسم الخزف في معهد الفنون الجميلة وائل دهان، الذي أوضح للثورة أن الهدف من الورشة هو نقل المعرفة إلى الجيل الجديد من طلاب الفنون، ويقول:«قررنا أن نحول المعرض إلى مساحة تعليمية، ورشة عمل تستمر عشرة أيام، ليتعرف الطلاب عن قرب على التقنية التي يعمل بها الفنان هشام». وقد أشار الدهان إلى أن الأعمال المعروضة لم تحتاج إلى ترميم جوهري، بل إلى تهيئة بسيطة للإطارات التي صمدت لأكثر من عشرين عاماً، مؤكداً أن جوهر الفعالية لا يقتصر على حفظ الحجر، بل على إحياء المعرفة التي أنتجته: «كل تراث مادي هو في الأصل تراث لا مادي، لأن الفكر والتقنيات والخيال الذي أبدعه هو ما يمنحه قيمته»، وفقاً لدهان، مضيفاً إن التقاليد الحرفية في سوريا بدءاً من الحفر على الخشب مروراً بالنسيج والزخرفة وغيرها، هي تراكم آلاف السنين من المهارة والتطور العلمي والجمالي.
رسالة سلام وتعدد
مديرة التراث اللامادي في وزارة الثقافة رولا عقيلي ربطت الفعالية بالإطار الدولي للاحتفال الذي أقرّته اليونسكو عام 2023، موضحة أن الهدف من هذه المناسبة هو تسليط الضوء على التراث الحي كقصة إنسانية تتجاوز الزمن والانتماء، «التراث اللامادي ليس ماضياً جامداً، بل ذاكرة تتحرك وتعيش في تفاصيل حياتنا اليومية، في الحرفة، في الغناء، في الأزياء، وحتى في العمارة»، بحسب ما قالته عقيلي للثورة، مشيرة إلى أن أنشطة الوزارة مستمرة طيلة شهر تشرين الأول في مختلف المحافظات، ضمن احتفالية تمتد على مدار الشهر، وترى عقيلي أن اختيار الفنان هشام كيلاني لافتتاح الاحتفالية يحمل بعداً رمزياً، مؤكدةً عقيلي أن أعماله لا توثق مشهداً جمالياً فقط، بل تحمل رسالة تسامح تحتضن كل مكونات المجتمع السوري، نرى في لوحاته رموزاً وقيماً إنسانية تدعو إلى المحبة والتسامح والسلام والتآخي.
بعد عقود من الغياب
بدت لحظة تكريم الفنان كيلاني مؤثرة، إذ تحدث بصوت يختلط فيه الفخر بالوجع، قائلاً: «هذا المعرض هو تكريم بعد 44 سنة من التهميش والتغييب وربما الإقصاء، كنت أعمل بصمت لأنني مؤمن بأن الفن لا يموت، واليوم أُكرَّم عن سنوات من الصبر».
إن كيلاني الذي أقام معارضاً في سوريا ولبنان وإيطاليا ومصر، يرى أن ما يقدمه هو وجه حضاري لسوريا، مثمناً جهود الوزارة في إظهار فنٍ سوريٍ جديدٍ للعالم، فنٌ يليق بحضارتنا الممتدة منذ آلاف السنين.
مختبر تراثي
عبّرت مديرة المتحف الوطني ديما أحمد عن سعادتها بالفعالية، معتبرة أن المعرض يشكل «نموذجاً نادراً» لما يمكن أن يقدمه فنان واحد من استعادة لذاكرة المكان عبر الحجر، وعن ذلك قالت: «أعمال كيلاني رائعة بكل المقاييس، والأجمل أن المعرض نفسه تحوّل إلى ورشة مفتوحة للطلاب، يتعلمون فيها كيف يمكن أن يتحول الحجر إلى فن ناطق»، مشيرة إلى أن سلسلة من المحاضرات القصيرة حول تاريخ وتقنيات الفسيفساء سترافق المعرض خلال الأيام المقبلة.
قصة إنسان بين المادي واللامادي
لم تقتصر الفعالية على الفن البصري وحسب، بل شملت أيضاً عروضاً موسيقية وغنائية من الموروث السوري، قدمتها الإعلامية زينة شهلة، التي تناولت تجربة توثيق الموسيقا التقليدية في مناطق مختلفة من سوريا، في محاولة لتكامل الصورة بين الصوت والحجر، بين المادة والروح.
وهكذا، بدا اليوم العالمي للتراث اللامادي في دمشق احتفالاً بالإنسان السوري ذاته، ذلك الذي لا يزال قادراً على تحويل الألم إلى جمال، والذاكرة إلى حجرٍ مضيء.
ففي قاعة المتحف، بين الفسيفساء التي تحكي قصة الحضارات الانسانية، وبين وجوه الشباب المتعلمين من معلمٍ صبور، كانت سوريا القديمة تجلس في قلب الحاضر، تروي حكايتها من جديد بلغة الفن.