سردية الوجود.. بين الشعر والفلسفة

الثورة – ديب علي حسن:

منذ أن وعى الإنسان وجوده على هذا الكوكب، شكل الزمن بالنسبة له مشكلة تبدأ من الولادة إلى الموت، والسؤال الذي لا جواب له عند البعض ماذا بعد الموت..؟
صحيح أن الديانات السماوية قدمت الإجابات القطعية، لكن السؤال ظل يشغل بال الفلاسفة.. ومن قبلهم الشعراء..
في الشعر العربي الجاهلي نزعة وجودية تحمل بذور الفلسفة.. يقول أحد الشعراء:
ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر..
ويرى آخر أن الموت هو الحقيقة المطلقة الوحيدة..
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً ما على آلة حدباء محمول..
ويرى آخر أن كل جديد يحدث له لذة غير أن جديد الموت ليس بلذيذ..
سؤال الزمن انتقل من الشعر إلى الفلسفة ولعل أشهر الفلاسفة العالميين الذين شغلوا به هو هايديجر في كتابه «الوجود والزمان»..
يرى الباحث شايع الوقيان في قراءته لهذا الكتاب أنه يعد واحداً من أعظم الكتب الفلسفية في القرن العشرين، ويكفي أنه سببٌ في ظهور تيارات فلسفية وفكرية عديدة، كالوجودية والتفكيكية والهرمنيوطيقية، وما بعد الحداثة عموماً.
وحسب الوقيان فإن الكتاب يمتاز بصعوبة بالغة ناجمة عن استعمال هايدجر منطقاً مغايراً للمنطق المألوف، ومصطلحات جديدة قام بنحتها بنفسه.
في هذا الكتاب يقوم هايدجر بتطبيق المنهج الفينومينولوجي (الظاهراتي) الذي ابتكره أستاذه هوسرل على ظاهرة “الوجود”.. هذا المنهج يركز ليس على الأشياء ذاتها؛ بل على ما يظهر لنا منها، أي على “معانيها” بالنسبة إلينا ككائنات عاقلة ذات وعي قصدي.
من هنا فسوف يدرس هايدجر ليس الوجود ذاته، بل “معنى” الوجود لنا نحن ككائنات عاقلة أو بالأحرى ككائنات فاعلة ومريدة، فهايدجر يهتم ليس بالإنسان ككائن يريد “معرفة” العالَم؛ بل ككائن “يعيش” في هذا العالم، ويحاول أن يحقق ذاته فيه.
أ) الوجود في العالم:
يرى هايدجر أن الإنسان ملقى به في هذا العالم، ولا يعرف إلا أنه يوجد هناك (أي في العالم). وهذه أول خاصية تميز الإنسان؛ فهو وجودٌ – في – العالم. قد يظن البعض أنها فكرة بديهية وربما سخيفة؛ لكن الحقيقة أن هايدجر استطاع بهذه الفكرة أن يتجاوز مشكلات فلسفية شتى، وأبرزها مشكلة الذات/ والموضوع. وهذه المشكلة التي بدأت مع ديكارت تنص على أن الذات (الإنسان ككائن مفكر) يعي ذاته بشكل يقيني، وأنه روح أو عقل، ويقف إزاءه عالمٌ مادي خارجي ليس متيقناً من وجوده أو من معرفته في ذاته. وهذا العالم قد يكون وهماً كما في حالة الأحلام؛ فلربما أننا الآن نحلم.
وهكذا انشغل الفلاسفة بمحاولة سد الفجوة القائمة بين الذات والموضوع؛ أي بين الإنسان كمفكر وبين العالم الخارجي، وهل المعرفة تبدأ من العقل أم من العالم التجريبي؟ وهكذا..
أما هايدجر فقد حل المشكلة بضربة واحدة: ليس هناك ثنائية؛ بل هناك فقط إنسان يوجد منذ البداية في عالم، وهذا ما يجب أن ننطلق منه في تفلسفنا.
إذاً، الإنسان بوصفه موجوداً هناك (ويطلق عليه اللفظة الألمانية “دا- زاين”) هو الأصل الأنطولوجي لكل اشتغال لاحقٍ.
الإنسان يولد ولم تتحدد ملامحه بعد أو “ماهيته”؛ فهو يوجد أولاً ثم يقوم بتحقيق ذاته (تحديد ماهيته) لاحقاً. فالإنسان يوجد، وتتحقق ماهيته في إطار هذا الوجود. وقد التقط سارتر هذه الفكرة (الوجود يسبق الماهية)، وبنى عليها مذهبه الوجودي.
هكذا فالإنسان ينخرط في علاقة مباشرة مع العالم المحيط به؛ ولكن علاقته ليست علاقة نظرية أو “معرفية” كما يظن الفلاسفة، بل علاقة “عملية”، ولذا فكل أشياء العالم تظهر للإنسان بوصفها “أدوات” يستعملها لتحقيق أهدافه؛ فالنجار يستعمل المطرقة كأداة لتحقيق غاية (طرق المسمار)، وهذه أيضاً تصبح أداة أو وسيلة لغاية أخرى وهي صناعة باب أو نافذة.. وهكذا فكل شيء يظهر كسلسلة من الأدوات والوسائل. من هنا يظهر العالم لنا بوصفه أدوات “تحيل” على بعض.
المعرفة العملية تكشف لنا عن حالة شعورية للإنسان وهي “الاهتمام”. هذه الحالة ترافق خاصية الوجود- في- العالم. فكل شيء بوصفه أداة يجذب اهتمامي إليه؛ وذلك لأنه وسيلة لكي أحقق أهدافي، وبالتالي أحقق ذاتي. هذا الاهتمام سيكون مصدراً لـ(القلق)، الإنسان يتصف بأنه متناهٍ، أي يعرف جيداً أنه سيموت، وأن وجوده متناه ومحصور بين الولادة والموت. من هنا سيضطر الإنسان إلى التخلي عن أغلبية طموحاته، فالزمان قصير. من هنا سيختار الإنسان جزءاً بسيطاً من تلك الطموحات، والاختيار ينطوي على “نفي” واستبعاد لبقية الطموحات (الإمكانات). وهكذا يطل العدمُ علينا برأسه؛ فالعدم يتجلى في النفي والإزالة، وفي التناهي والوعي بالموت، وهو مصدر القلق، وهو قلق وجودي لا نفسي.
ويرى هايدجر أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يعرف أنه “سوف يموت”؛ وهكذا فالزمان يصبح عاملاً مهماً في وجوده، أو لنقل: إن الإنسان يشعر أنه في سباق مرير مع الزمان. فالغاية النهائية هي الموت و”انتفاء” كل الطموحات والإمكانات، والحقيقة أن هايدجر يصر على أننا نحمل الموت معنا باستمرار كإمكانية قصوى.

دعونا نتصور أننا خالدون لا نموت؛ هذه الحقيقة سوف تجعلنا لا نشعر بقلق ولا بإلحاح الزمان علينا، وربما نتحول إلى كائنات خاملة صماء كالحجارة. ماذا أريد أن أكون؟ مهندساً؟ طبيباً؟ مدرساً؟ أستطيع فعل ذلك بعد مليون سنة أو مليار سنة، فلماذا العجلة؟ لذا فمعرفتي بأنني كائن مائت تجعلني أتحفز باستمرار لاستثمار كل شيء من أجل تحقيق ذاتي.
الإنسان مخلوق من الزمان أو “معجون به”، كما يعبر عبد الرحمن بدوي، أبرز الوجوديين العرب؛ فنحن كائنات متزامّنة ومتناهية، وسائرة نحو الموت والفناء.
تعد آراء هايدجر في كتاب (الوجود والزمان) منجماً من التبصرات لكثير من الفلاسفة الذين أتوا بعده؛ مثل سارتر وميرلوبونتي وليفيناس وبول ريكور ودريدا ورتشارد رورتي، كما أنه لعب دوراً حاسماً في تأسيس الهرمنيوطيقا المعاصرة (فلسفة التأويل) التي دشنها جورج هانز غادامير. فقد أخذ هذا الأخير من هايدجر فكرة الفهم- المسبق، أو الفهم القبل- نظري، وكذلك اعتبار فهم الإنسان للعالم نوعاً من التأويل، وهكذا لم يعد التأويل مرتبطاً بفهم النصوص؛ بل بفهم العالم ككل.

آخر الأخبار
الرئيس الأسد يصدر قانون إحداث وزارة “التربية والتعليم” تحل بدلاً من الوزارة المحدثة عام 1944 هل ثمة وجه لاستنجاد نتنياهو بـ "دريفوس"؟ القوات الروسية تدمر معقلاً أوكرانياً في دونيتسك وتسقط 39 مسيرة الاستخبارات الروسية: الأنغلوسكسونيون يدفعون كييف للإرهاب النووي ناريشكين: قاعدة التنف تحولت إلى مصنع لإنتاج المسلحين الخاضعين للغرب الصين رداً على تهديدات ترامب: لا يوجد رابح في الحروب التجارية "ذا انترسبت": يجب محاكمة الولايات المتحدة على جرائمها أفضل عرض سريري بمؤتمر الجمعية الأمريكية للقدم السكرية في لوس أنجلوس لمستشفى دمشق الوزير المنجد: قانون التجارة الداخلية نقطة الانطلاق لتعديل بقية القوانين 7455 طناً الأقطان المستلمة  في محلجي العاصي ومحردة هطولات مطرية متفرقة في أغلب المحافظات إعادة فتح موانئ القطاع الجنوبي موقع "أنتي وور": الهروب إلى الأمام.. حالة "إسرائيل" اليوم السوداني يعلن النتائج الأولية للتعداد العام للسكان في العراق المتحدث باسم الجنائية الدولية: ضرورة تعاون الدول الأعضاء بشأن اعتقال نتنياهو وغالانت 16 قتيلاً جراء الفيضانات والانهيارات الأرضية في سومطرة الأندونيسية الدفاعات الجوية الروسية تسقط 23 مسيرة أوكرانية خسائر كبيرة لكييف في خاركوف الأرصاد الجوية الصينية تصدر إنذاراً لمواجهة العواصف الثلجية النيجر تطلب رسمياً من الاتحاد الأوروبي تغيير سفيره لديها