الثورة _ ديب علي حسن:
ما قدمه الباحث والمفكر السوري الدكتور ياسر شرف في مجال الدراسات الفلسفية والنفسية والاجتماعية مهم جداً، وها هو اليوم يضيف إلى ذلك دراسات حول اللغة والنشأة في كتابه الجديد والمهم الذي صدر عن اتحاد الكتاب العرب في دمشق وحمل عنوان: قفزة نحو تشومسكي في هذا الكتاب يطرح أراء مهمة جداً تخلخل الكثير من الثوابت حول النحو واللغات وتفتح باباً مهماً للنقاش يقود إلى كسر الجمود اللغوي والتقعر النحوي الذي مازال عند البعض، إنها أسئلة من أجل التجديد في كل أركان اللغة، في هذه العجالة نشير إلى بعض آرائه التي جاءت في الكتاب المذكور وعلى صفحته الشخصية أيضاً.
ولكن قبل ذلك نتوقف عند بعض معطيات النظرية اللغوية التي طرحها تشومسكي الذي يرى كلاً من المعنى والمحيط للغة شيء غير مهم وثانوي في دراسة اللغة، فإنّه عند دراسته لتطوّر اللغة لدى الطفل لا يأخذ بالحسبان المحيط الاجتماعي الذي نشأت فيه هذه اللغة، كما يرى أنّ الطفل مستقل في بناء لغته، فهو يعتمد بذلك على نفسه مع بعض تأثيرات الظّروف المحيطة بهذا التأثير هو تأثير ثانوي في تكوين اللغة؛ فالإنسان يولد في هذه الحياة ولديه ملكة لغويّة فطريّة تجعله قادراً على اكتشاف اللغة وتعلّمها بنفسه دون الحاجة إلى غيره.
فالطفل -برأي تشومسكي- يمتلك جهازاً فطرياً أو ما يدعوه بجهاز اكتشاف اللغة؛ إذ يمكّنه هذا الجهاز من جمع المعطيات اللغوية التي يتلقاها الطفل ممّن هم حوله ومعالجتها.ثمّ يولّد ويؤسّس مجموعة من القواعد اللغويّة الخاصّة به، وهذه القواعد قد تختلف عن القواعد اللغوية التي يستخدمها الراشدون، ويرى تشومسكي أنّ هذا الافتراض يفسّر العديد من الظواهر اللغوية لدى الفرد عند اكتسابه للغة وتطوّرها. أمّا عن عمل جهاز اللغة الفطري عند الطفل، فيرى تشومسكي أنّ الطفل يحصل على بيانات خفيفة مما يسمعه، وهذه البيانات يكوّن من خلالها الطفل قواعد ومفاهيم جديدة يسير عليها، وأمّا عن اختلاف لغة الطفل عمّن أخذ عنه أو عن الكبار فإنّ للسن والنضج وإدراك الطفل تأثير كبير في بناء المفاهيم التي تتطوّر وتكبر مع تقدّم الطفل بالسنوحين يتوقف شرف عند الترادف في اللغة العربية فهو يرى أن مسألة «الترادف» لا تزال إشكالية معقّدة بين اللغويين المشتغلين بالعربية منذ قرون متعدّدة، واختلفت آراؤهم في النظر إليها، من حيث تعريفها وتفسيرها، وإقرار جواز وقوعها أو إنكاره وما ترتب عليها.
وقد لفت باحثون مقارنون إلى أنّ الذين قالوا بالترادف رأوه «فضيلة» للعربية تفخر على غيرها به، ودليلاً على سعتها وغِناها وثراء مفرداتها في الإبانة والتعبير؛ بينما عدّه آخرون «مثلبة» في العربية ومجالاً للطعن فيها، واتهموها بالإسراف في بعض المفردات دون بعض، وغمزوها بإفراط لا ضرورة له، حتى ذهب بعضهم لوصفها بأنها «لغة مائعة» لا تعرف تحديد الألفاظ ولا الصفات، ورأى دارسون آخرون أنّ ظاهرة الترادف تنافي «حكمة الوضع» في اللغات الإنسانية المرموقة، فشدّدوا النكير عليها، وعدّها بعضهم أمراً غير طبيعي يدعو إلى الشكّ والارتياب، ووجدّها آخرون دليلاً على «بدائية» هذه اللغة، أو دليلاً على كونها خليطاً غير منظّم لمجموعات لغوية ولهجية.
وقد زاد على ذلك كلّه أنّ الدراسات التخصصية قليلة جداً في ذلك، ولاسيّما بعد اشتغال أكثرية الدارسين بالتسابق إلى جمع الألفاظ المترادفة وتصنيفها، بعد أن غلب عليهم القول بجواز وقوعها دون استقصاء ولا معرفة حقائق.
وفي أسئلة تبحث عن إجابات حول التصنيف اللغوي والمعاجم يرى أن ما عرضـه ونصّه بعـض الـلاحقين من المصنّفين في الثقافة يؤكّــد ما ذكرناه من أنّ اللّـغـة التي حملت اسم «العربية الفصحى» هي حصيلة هجين من لغات عربية متعدّدة، مشوبة بتأثيرات مختلفة من لغات الجوار التي أخذها العرب في أحاديثهم، وقد اشتهر بعضها أكثر من بعض، ونجد شيئاً من هذا في تصريحات المؤرّخين واللّغويين والمفسّرين والورّاقين وغيرهم، من الذين أقــرّوا أنّ كتب «المعجمات» اللغوية قد جمعت مقادير كثيرة من ذلك المتوافر كلّه، على مدى عشرات سنين من الزيادة والتهذيب والتجويد، ما يطرحه شرف ربما سبقه إليه دعاة التجديد في النحو ولكنهم لم يغوصوا في محيط التدوين والتقعيد ولم تكن لديهم الجرأة في الإشارات التي حررها ومررها الدكتور ياسر شرف وهي تفتح باباً واسعاً في هذا المجال.
