الملحق الثقافي- عبد الحميد غانم:
راكمت القضية الفلسطينية خلال ٧٥ سنة على النكبة، تراثًا ثقافيًا وسياسياً، يصعب تجاوزه، يؤكد أن قضية فلسطين لا تزال القضية المركزية العادلة والنموذج القومي العربي التحرري في المنطقة والعالم، رغم العديد من القضايا التحررية التي شهدتها المعمورة خلال العقود الماضية.
وأمكن لفلسطين أن تكون في قلب كل نضال سياسي قومي في المنطقة، ما جعلها بالفعل البوصلة التحررية العربية، خلال القرن العشرين الماضية.
وقد سعت القوى الاستعمارية الغربية قبل مئة عام إلى تشتيت إمكانات القوى العربية وإشغال كل قطر عربي بهموم ومشكلات، تبعده عن الاهتمام بالقضية الفلسطينية.
فكانت ( سايكس بيكو) ، التي قسمت المنطقة العربية، ووزعت بلدانها إلى حصص استعمارية للدول الغربية، مما خلق البيئة المناسبة لقيام الكيان الصهيوني واحتلال فلسطين العربية وتهجير أهلها، لمنع قيام أي اتحاد عربي، أو أي عمل يساعد على تقدم العرب وتطورهم وخلاصهم التنموي خاصة بعد نيل معظم الدول العربية استقلالها الوطني.
ورغم كل محاولات الاحتلال الصهيوني والاستعمار الغربي لطمس القضية الفلسطينية والغاء الحقوق الشرعية الفلسطينية بعد ٧٥ سنة على الاحتلال، إلا أنها فشلت، وتكسرت مخططاتها على صخرة الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني ولكل المقاومين والأحرار في مواجهة آلة الحرب العدوانية الصهيونية.
وبعد مضي نحو قرن على المخطط الاستعماري الغربي، ها هي القوى الغربية بزعامة الولايات المتحدة وكيان العدو، تعاود من جديد لإعادة رسم مخطط آخر للمنطقة العربية بما يشغلها بهموم ومشكلات جديدة، بما يمكن كيان الاحتلال الصهيوني من الاستمرار، واستكمال مخططه لتصفية القضية الفلسطينية، تحت ما سمي «صفقة القرن».
ومهما حاولت قوى الغرب والصهاينة، جعل القضية الفلسطينية خارج دائرة الوعي العربي، لكن الأحداث والوقائع الجارية تؤكد أنه كلما انتقل الصراع الفلسطيني الصهيوني إلى شوط جديد، إلا وكان لذلك وقع مباشر على بقية الملفات العربية، مهما كانت حدّتها وأهميتها.. تبقى فلسطين بوصلة هذه الأمة، مهما طال الطريق، وتشعبت الدروب.
وعندما أطلت غيمة ما سمي ب «الربيع العربي» في سماء المنطقة، وأن تنتقل إلى الدول العربية، اعتقد كثيرون أن ما قد يترتب عن ذلك من تغيير في موازين القوى سيؤول، في النهاية، إلى التأثير على خط دعم فلسطين، باعتبارها القضية المركزية.. لكن، سرعان ما تبخرت تلك الأحلام، رغم أنه تم الاشتغال، طوال الفترة الأخيرة، على أكثر من بلد وأكثر من قضية، حتى تبقى مختلف المسارات تحت السيطرة الغربية والصهيونية، لكن حصل العكس تمامًا، حيث تساقطت مخططات الغرب الاستعماري المتناغمة مع المخطط الصهيوني.
وعادت الأحداث لتؤكد على مركزية القضية الفلسطينية في الاهتمام القومي والبوصلة العربية.
الملفت في الأمر أن كل ما جرى ويجري خلال ١٣ سنة من محاولات تشتيت القوة العربية، لم تستطع أن تسقط القضية الفلسطينية من الاهتمام القومي العربي، ولا تزال تشكل محور النضال التحرري العربي.
لكن في المقابل، وضعت الكيان في أزمات بنيوية ووجودية.. فالمجتمع الإسرائيلي في اللحظة الحالية مريض بأزمة هيكلية في بنية ثقافته ومنظومة قيمه.
صحيح أنّ تواطؤ العالم الغربي مع كيان إسرائيل واعتبارها كياناً محصّناً فوق القانون الدولي والمحاسبة عزّز من هذه الأزمة الهيكلية.
لذلك نرى أن هروب الكيان إلى الأمام من هذه الأزمات يتم من خلال سلوكه العدواني ضد فلسطين وغزّة عبر هستيريا القتل وممارسة الجرائم وحرب الإبادة الجماعية والتهجير القسري.
ورغم أن القضية الفلسطينية تعرضت لعملية تصفية ممنهجة ومستمرة قاومها شعبها طوال هذه العقود ببسالة منقطعة النظير، إلا أنها ستظل منبعًا للدروس والعبر للأجيال القادمة.. قضية عاشت معها الشعوب العربية نكبات وملاحم مقاومة لا تعد ولا تحصى، ورحل الجيل الأول الذي عايش البدايات وخبر خباياها في حقبة كانت القضايا القومية لها ثقل في وجدان أي إنسان عربي، وأتت بعد ذلك أجيال نشأت مع شعارات السلام واتفاق أسلو ومسارات التطبيع، ثم جاءت أخرى عايشت تحولات عميقة على المستوى السياسي والثقافي أصابت عمق اهتمامات ومعتقدات شعوب المنطقة.. لكن القضية الفلسطينية لم تراوح مكانها في وجدان هذا العربي، فهو يتألم بتألم أخيه الفلسطيني ويسعد بسعادته.
لكن بعد طوفان الأقصى وصمود الشعب الفلسطيني لأكثر من سبعة شهور يعيد اليوم وهج القضية الفلسطينية وتعود لتنير ظلام الواقع العربي وتوجه بوصلته، وما يحدث الآن في غزة من إبادة جماعية تحت أنظار العالم ومباركة الغرب وصمت العالم سيجعل الشعوب العربية والعالم تستفيق وتخلع عنها رداء المهانة الذي لا يليق بها وتعود إلى سابق عهدها لتقول كلمتها وتضغط لوضع حد لهذا القتل الوحشي للأبرياء.
لقد أثبت زلزال «طوفان الأقصى» من جهة وصمود المقاومة الأسطوري لأكثر من سبعة أشهر من جهة ثانية، أنهما تحوّلان تاريخيان من النوع الذي لا تظهر آثاره كلها مرة واحدة بل تستمر في تفجير موجات تغيير هائلة بحجم التسونامي لشهور وسنوات.
وأنّ كل جبروت القوة الأميركية – الإسرائيلية غير كاف لمنع «طوفان الأقصى» بجناحيه من حفر مجراه في تاريخ فلسطين والمنطقة.
العدد 1189 –14-5-2024