تحقيق: جهاد اصطيف
في صباحات حلب المكتظة بالحياة، لا تكاد تخلو ساحة أو سوق من عربات الطعام المتنقلة التي تملأ الهواء بروائح الفلافل والبطاطا المقلية، أو حتى الحلويات، أصوات الباعة تتعالى بنداءات “تفضل دوق”، وأمامهم يقف عدد من المواطنين يتناولون وجباتهم السريعة، غير آبهين بما يحيط بهم من غبار وأتربة وعوادم سيارات.
ظاهرة تتوسّع بلا ضوابط
خلف مشهد عربات الطعام الشعبي في الشوارع، تختبئ أخطار تهدد الصحة العامة، وتكشف هشاشة الرقابة الصحية والوعي المجتمعي في واحدة من أكبر مدن سوريا. مع شروق الشمس، تبدأ العربات الثابتة والمتحركة في التوافد إلى الأسواق الشعبية ومداخل الأحياء، على متنها أنواع من الأطعمة والحلويات والمشروبات، تعرض مكشوفة دون أغطية، أو في برادات، أو أي وسيلة تحفظها من التلوث. في سوق باب الجنان، وسط المدينة، وهو من أكثر الأسواق اكتظاظاً، تتحول الأرصفة إلى مطابخ مفتوحة في الهواء الطلق، يختلط فيها صوت قلي الزيت بدخان السيارات وروائح القمامة المتراكمة على بعد أمتار قليلة.
يوضح هاني حمود، موظف حكومي، من سكان حي صلاح الدين، خلال حديثه لصحيفة الثورة أن الأطعمة المكشوفة تنتشر يومياً بشكل كبير، سواء على العربات المتنقلة أو البسطات الثابتة في الأسواق، والجهات المختصة غائبة تماماً، وكأن الأمر لا يعنيها، ونحن أمام خطر صحي حقيقي يهدد الناس، خاصة الأطفال وكبار السن. ويتابع حمود: تلك المأكولات تتعرض لأشعة الشمس والغبار والهواء الملوث، وحتى للحشرات، ومع ذلك تجد من يقبل على شرائها لأنها أرخص وأسرع، والرقابة هنا غائبة، والوعي ضعيف، والنتيجة قد تكون أمراض لا تحصى. يرى كثير من الباعة أن الظروف الاقتصادية الصعبة دفعتهم إلى هذا النوع من العمل، رغم علمهم بخطورته الصحية.
اعتراف
يعترف “محمود .د”، بائع سندويش بالقرب من منطقة صناعية بحلب، بينما يقلب قطع الفلافل في الزيت، خلال حديثه لصحيفة الثورة أن البيع في الشارع ليس صحيّاً، لكنه لايملك مكاناً أو ترخيصاً، فإيجار المحال مرتفع جداً، ولو أغلق عربته، فلن يجد ما يطعم به أولادي. كلام البائع يلخّص جانباً مهماً من المشكلة، فالكثير من هؤلاء الباعة يعملون خارج الإطار القانوني بسبب غياب البدائل، بينما تغض بعض الجهات الرسمية الطرف عنهم تجنباً لزيادة البطالة على ما يبدو، لتستمر هكذا الظاهرة، على حساب صحة المواطن.
ميمونة قصار، شابة في العشرينيات من عمرها، تتجول في السوق وترى هذه العربات كل يوم، خاصة في الصباح والمساء، حيث الأطعمة المعروضة مكشوفة تماماً، والحشرات تحوم حولها، ومع ذلك، يشتري الناس بلا تردّد لأنهم يريدون طعاماً سريعاً ورخيصاً، حسب قولها. وتضيف: الهريسة، الملبن، العجة، وحتى العصائر كلها تباع على الأرصفة تحت أشعة الشمس، إنها قنابل صحية موقوتة، نحن بحاجة إلى رقابة حقيقية.
قرب أكوام القمامة!
في جولة ميدانية داخل سوق باب الجنان، يلاحظ الزائر مشاهد صادمة، حيث العربات والبسطات المكشوفة تقف على بعد خطوات من أكوام القمامة، باعة يقلّبون السندويشات دون قفازات، وأطفال يتناولون العصائر من أكياس بلاستيكية، والأتربة تتطاير من كل جانب، والهواء يحمل دخان السيارات وروائح النفايات، ومع ذلك، الإقبال لا يتوقف. يجيب أحد المارة على سؤالنا حول تناول الأطعمة المكشوفة من الشارع أو السوق مبتسما: ” أكل الشارع له طعم خاص”، لكنه لا يدرك أن هذا ” الطعم الخاص ” قد يكون محمّلاً بجراثيم وبكتيريا تهدّد صحته.
الدكتور حسن عبد المجيد، أخصائي أمراض داخلية وقلبية، يرى أن المشكلة تجاوزت حدود الظاهرة الاجتماعية لتصبح قضيةً صحيةً خطيرةً، فالأطعمة المكشوفة تسمح بانتقال البكتيريا والفيروسات بسهولة عبر الحشرات أو الغبار أو حتى الأيدي غير النظيفة، وكثير من الأمراض المنتشرة اليوم مرتبطة بهذا النوع من الممارسات، مثل التسمم الغذائي، والنزلات المعوية، والالتهابات الجرثومية، وحتى أمراض كالحصبة وشلل الأطفال لدى الأطفال الصغار. ويشدّد عبد المجيد على أن الوقاية خير من العلاج، وأن نصف صحة المجتمع تأتي من الوعي الغذائي، يجب على الناس أن يدركوا أن الأطعمة الرخيصة قد تكون مكلفة لاحقاً إذا كانت سبباً في مرض خطير. ويحذّر من خطورة استخدام الزيوت المكررة والمستخدمة أكثر من مرة في عربات الأطعمة، مؤكداً أن الدراسات أثبتت احتواءها على مواد مسرطنة تؤثر على الكبد والجهاز الهضمي. ويتابع: البيئة التي تحضّر فيها هذه الأطعمة غير مؤهلة إطلاقاً، فهي محاطة بالأوساخ وعوادم السيارات، ما يجعلها مصدراً مثالياً لانتقال الجراثيم والطفيليات.
الجهات الرسمية تعلّق
تواصلت “الثورة” مع مدير مديرية الشؤون الصحية في مجلس مدينة حلب الدكتور وائل اليوسف، الذي أكد أن المديرية تتابع الموضوع عن كثب، كونها ظاهرة خطيرة ندركها تماماً، ونتعامل معها بالتعاون مع مديرية التجارة الداخلية وحماية المستهلك عبر دوريات مشتركة بين الطرفين لمكافحة ظاهرة الأغذية المكشوفة، خاصة المعرضة للغبار والدخان والحشرات.
وعن الإجراءات المتبعة، أضاف اليوسف: إن المديرية تتابع كل ما يتعلق بمسألة الأطعمة المكشوفة، خاصة تلك التي تسبب التسمم الغذائي أو المواد الفاسدة، إذ يتم مصادرتها وملاحقة أصحاب الفعاليات أو المطاعم أصولاً، بالتزامن مع تقلبات الجو كما هو الحال الآن، إذ نكثف كذلك من رشّ المبيدات، سواء كان رذاذياً أو ضبابياً، بحيث نغطي كل أحياء حلب وشوارعها، بالتوازي مع مكافحة القوارض، سواء عبر المواطن مباشرة أو عبر المديرية.
وأضاف اليوسف: إنه في حال وجود شكوى، يتم، بداية، إنذار صاحب المحل للمرة الأولى لمدة ثلاثة أيام، وفي المرة الثانية يغرّم مالياً مع توجيه إنذار بسحب الرخصة نهائياً بحق المخالف في حال لم يلتزم بالشروط الصحية المطلوبة، لأن ما يهمنا في النهاية السلامة العامة والحفاظ على صحة وسلامة المواطنين، عبر تشديد الرقابة على المحلات والالتزام بالاشتراطات الصحية للترخيص ومزاولة أي مهنة لها علاقة بالمواد الغذائية.
وأكد الدكتور اليوسف في ختام حديثه أن عمل المديرية واضح، والسوق هو الفيصل، خاصة أننا نتعامل بشكل نزيه وشفاف مع كل الفعاليات الاقتصادية وأصحاب المحلات التي تقدر بأكثر من 12000 محل في حلب بعد أن زاد العدد إلى النصف تقريباً في الأونة الأخيرة، هذا عدا عن البسطات والعربات الجوالة في مختلف الأحياء التي تتابعها القطاعات المعنية.
مخالفات بالجملة
بدورها مديرية التجارة الداخلية وحماية المستهلك، وعلى لسان مدير التموين بحلب عادل حلاق، الذي أوضح أنه يتم تسيير دوريات يومية على مختلف أسواق مدينة حلب، خاصة الأسواق الشعبية، إذ يتم تشديد الرقابة على الشروط الصحية لضمان وصول المواد الغذائية إلى المواطنين بشكل صحيح وسليم.
وأضاف: إنه يتم اتخاذ الإجراءات القانونية وتنظيم الكثير من الضبوط التموينية بحق المخالفين، وغالباً ما يتم التركيز على منطقة باب جنان، وتنبيه أصحاب الفعاليات والبسطات لضرورة الاهتمام بالشروط الصحية لسلامة الغذاء، وعدم بيع الأغذية بشكل مكشوف و تركها عرضة للعوامل الجوية، إذ تمّ تنظيم نحو 87 ضبطاً تموينياً بحق المخالفين بالفترة الأخيرة، مشيراً إلى أن المديرية مستمرة بتكثيف الدوريات على الأسواق الشعبية بشكل عام.
تؤكد أراء المعنيين أن باستطاعتهم ضبط الأسواق، لكن ماذا عن الباعة الجوالين الذين ينتقلون من مكان إلى آخر؟ البعض يرى أن الحل الحقيقي هو تعاون المواطن نفسه، بأن يرفض شراء الأطعمة المكشوفة ويدعم الجهود الرقابية بدل أن يكون جزءاً من المشكلة.
القوانين الصحية السورية واضحة في هذا المجال، إذ تمنع بيع أو عرض الأطعمة والمشروبات المكشوفة في الشوارع، وتفرض غرامات ومصادرة على المخالفين، لكن في الواقع، التنفيذ يواجه عراقيل عديدة أهمها على ما يبدو قلة الكوادر الرقابية، والأهم من ذلك غياب الوعي المجتمعي.
الخبير الاجتماعي حيدر السلامة يرى خلال حديثه لصحيفة الثورة أن القضية ليست صحية فقط، بل ثقافية وسلوكية أيضاً، فحين يشتري المواطن طعاماً مكشوفاً بجانب القمامة، فهو لا يفعل ذلك بدافع الجهل فحسب، بل بدافع الاعتياد، هناك تطبيع خطير مع مظاهر التلوث في حياتنا اليومية، المطلوب هو تغيير الثقافة من جذورها، عبر التعليم والإعلام والمجتمع المدني.
فيما يؤكد اقتصاديون أن ظاهرة الأطعمة المكشوفة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالفقر وغلاء المعيشة، فالعامل الذي يتقاضى راتباً محدوداً لن يتمكن من تناول طعام نظيف في مطعم نظامي.
كما أن الباعة أنفسهم غالباً من فئة محدودي الدخل الذين لم يجدوا عملاً آخر، وهنا تكمن المعضلة الأخلاقية والاجتماعية، وهي: كيف يمكن ضبط الظاهرة دون أن نقطع أرزاق هؤلاء الباعة؟ الإجابة، كما يرى المختصون، تكمن في تنظيم الأسواق الشعبية ومنح تراخيص مشروطة للبائعين، مع إلزامهم بشروط النظافة العامة وتوفير أدوات الحماية والغطاء للأطعمة.
من يحمي صحة المواطن؟
في نهاية هذا المطاف، يبرز سؤال جوهري: من يحمي صحة المواطن في مواجهة هذا الخطر الصامت؟ الجهات الرسمية تتحدث عن إمكانياتها وإجراءاتها، والمواطن يبرر بالظروف الاقتصادية، والباعة يختبئون خلف الحاجة، لكن النتيجة واحدة: صحة المجتمع على المحك.
لقد أثبتت دراسات عدة أن الأطعمة المكشوفة في الشوارع تحتوي في كثير من الأحيان على نسب عالية من البكتيريا والطفيليات، وبعضها يحضر بزيوت مكررة تحتوي على مواد مسرطنة، وهي نتائج كفيلة بدق ناقوس الخطر وبدء تحرك جاد على كل المستويات.
وما بين الأرصفة المزدحمة وعربات الطعام المكشوفة، تتجلى معركة خفية بين لقمة العيش ولقمة السلامة، فالمواطن يبحث عن طعام يسد جوعه، والبائع يسعى وراء رزقه، لكن النتيجة قد تكون مرضاً ينهك الجسد والمجتمع معاً.
الرقابة وحدها عاجزة، لكن بتضافر الجهود يمكن لحلب أن تتخلص من هذه الظاهرة التي باتت تلطخ وجهها العريق وتهدد مستقبل أبنائها، فصحة الإنسان لا ينبغي أن تكون الثمن الذي يدفع لقاء وجبة رخيصة على قارعة الطريق.