الملحق الثقافي:
حين سأله محاوره عن السمراء التي أحبها في حلب أجاب قائلاً: الشهباء مدينتي التي عشت فيها عشرين عاماً من خريف 1947 إلى ربيع 1967 ،حلب.. الحب، الشعر، التاريخ زهوة العمر، وعنفوان الشباب ، حلب التي أملت عليّ نصف شعري وأعطتني أسرتي: الصغيرة وأولادي الثلاثة وقبل هذا وذاك أعطتني رفيقة العمر، وشريكة الكفاح التي ملأت ولا تزال حياة الشاعروكانت القصيدة الأولى التي ما أزال عاجزاً عن كتابتها.. دخلت حلب مدرساً للغة والأدب في ثانوياتها في خريف 1947 م لم أكن أحمل معي غير إجازاتي التي حصلت عليها من دار المعلمين العالية في بغداد ودفتر مخطوط يحمل أول مجموعة شعرية لي ،كنت قد بدأت أن أختار قصائدها وأسجلها في دفتري منذ أعوام لم أكن أسجل إلا ما يروقني من قصائدي، وأشهد أني كنت ألقي خلفي الكثير مما أكتب دونما أسف ، ولا ندم.
– فراشة تطير..
وماذا عن الفراشة..؟!
همس صديقي في أذني: هناك أسرة كريمة، قعد ربها عن العمل وفي البيت أربع فتيات يجدن صعوبة في متابعة دراستهن فهل أنت على استعداد لمساعدتهن ببعض الدروس؟ أعرف اندفاعك وإيثارك في مثل هذه الأمور؟!
قلت بلا تردد: سأضع كل ما أستطيع توفيره من وقت في خدمة هذه الأسرة ، وفي صباح اليوم التالي كنت مع صديقي وصديق الأسرة في البيت.. بيت أبي أحمد وأم أحمد الذي سيصبح أقرب بيت إلي في الشهباء .. كانت الفتيات الأربع اللواتي يجمعن بين الجد والمرح والتهذيب الرفيع والحرية المتزنة ينتظرن دروسي كلّ أسبوع مرتين أو ثلاثاً حسبما يتاح لي من فراغ، وكن يحدثنني من حين إلى آخر عن شقيقة لهن تتابع تحصيلها العالي في الخارج في بلجيكا لقد استطاعت هذه الشقيقة الذكية أن تشق طريقها إلى المستقبل الأرحب وتفوز ببعثة دراسية في جامعة بروكسل وستعود قريباً إلينا.
وجاءت السمراء ذات يوم من أيام الصيف دخلت البيت لأجد الأسرة كلها تحتفي بعودة الشقيقة من بلجيكا ومددت يدي أصافح السمراء النحيلة التي كانت ترتدي ثوباً أزرق امتلأ بالنقط البيض الصغيرة كقطعة من السماء الزرقاء امتلأت بالنجوم وأحسست منذ اللحظة الأولى أني أصافح فراشة تطير لا صبية تتحرك بخفة نسمة ورشاقة عصفورأمامي. ودار بيننا الحديث منقطعاً متشعباً لا يكاد يهدأ حتى يبدأ من جديد .. السمراء النحيلة تريد أن تعرف كلّ شيء عني وأنا أريد أن أعرف كلّ شيء عنها.. من يدري ربما كانت الحلم الذي يراود خيالك أيها الشاعرالشاب المتقد حماسة وثورة واندفاعاً إنها لا تقل عنك حماسة واندفاعاً إنها شيء آخر.. يختلف عن كلّ ما رأيت حتى الآن.
ومنذ ذلك اللقاء.. كنا ننطلق كلّ مساء في نزهة طويلة نجوب في شوارع المدينة العريقة، نمشي ونتحدث ، نتحدث ونمشي وتملأ الفراشة القادمة من بعيد فراغي كله وتدورالأيام وما تلبث أن تملأ حياتي كلها.
أما الدكتورة ملكة فتضيف قائلة: عدت إلى بروكسل لإكمال السنة الأخيرة بعد أن أعلنا خطبتنا واتفقنا على الزواج لدى عودتي إلى حلب وإني لا أنسى هذه (الدعابة) التي كتبها سليمان ذات يوم لوالدي هي أبيات من الشعر يحييه فيها ، ويسوغ مشاويرنا المسائية في صيف حلب منها:
إني أرى حلب تذوب حرارة
طول النهار وتبعث الأتراحا
كيف السبيل إلى اتقاء لهيبها..؟!
إنا لنرهب وهجه اللفاحا
كدنا نضيق بذاك لولا رحمة
من ربنا تسع الوجود فلاحا
خلق المساء لنا فكان نسيمه
يحكي طباعك رقة وسماحا..
العدد 1191 – 28 -5-2024