الملحق الثقافي- نداء الدروبي:
بدأتِ الرسم منذ نعومة أظفارها قبل أن تتعلَّم الكتابة والقراءة، وظهر اهتمامها بالصورة المرافقة للموضوع في الخامسة من عمرها، وأصبحت تتذكَّر طفولتها، وأنَّ لكلِّ طفل تعبيره القوي جداً بالريشة وبالخطوط، فالموهبة ملكة لديه، لذا لا يُعبِّر بالريشة فحسب وإنما بالكلمة أيضاً.
قالت: (إنَّ الطفل لا يعرف أنَّ الكلمة تعبِّر أيضاً، وهذه الأمور يجب أن أحرص عليها).
فالفنانة لجينة الأصيل عندما كبرت تبلور عملها أكثر، وكانت في المرحلة الابتدائية تُدرك بأنها تستطيع الرسم بشكل جيد، وكان زملاؤها في المدرسة يطلبون منها أن ترسم لهم نتيجة لموهبتها الفنية القوية.. في البداية رسمت بشكل عفوي، كما قالت، وكانت والدتها تشجِّعها على متابعة الرسم لأنها تحبُّ الفنون العامة، فجلبت لها المواد، كما دعمها والدها وشجَّعها، وكانا يُحقِّقان لها كلَّ ما تتمنَّاه، إذ جعلاها تنتسب لمركز أحمد وليد عزت للفنون التشكيلية رغم الصعوبات المعترضة طريقها في ذلك الوقت، حيث كان المركز بعيداً عن منزلها، وكان والدها يأخذ عطلة من العمل كي يوصلها إليه، ثمَّ يُعيدها إلى المنزل رغم انفصاله عن والدتها مذ بلغت السابعة من عمرها، وكان هذا السبب يُؤرِّقها ويخلق لها أزمة كبيرة.. وقد اختلفا في كلِّ الموضوعات؛ إلا أنهما اتفقا على دعمها وتقديم المساعدات الكاملة لها، وفي الصف الثامن من المرحلة الإعدادية انتسبت إلى مركز أدهم إسماعيل، وكانت تحبُّ كلَّ الأوقات التي تقضيها في المركز، حيث كان يُدرِّسها ناظم الجعفري بالأبيض والأسود، كذلك الفنان نصير شورى يُدرِّبها على الألوان؛ لكنه لم يُعلِّمها لوقتٍ طويل مثل التشكيلي ناظم الجعفري الذي تابع معها لمدة أربع سنوات وكان يصطحبها وأترابها معه إلى دمشق القديمة كي يرسموا بالفحم وبالأبيض والأسود ليصبحوا أقوياء عندما يُلوِّنون كالمصوِّر الفوتوغرافي، فالأبيض والأسود يمدُّهم بالدقَّة المثالية أثناء التلوين والمزج بين الدرجات المختلفة.
كانت التشكيلية لجينة الأصيل طالبة مثل أكثر الطالبات تتفوَّق في بعض المواد وتتأخَّر في بعضها الآخر.. ومنذ عام ١٩٥٨ وحتى ١٩٥٩ تدرَّبت وتعلَّمت في معهد أحمد وليد عزت ثم تمَّ نقلها إلى مركز أدهم إسماعيل، وقد ظلَّت فيه حوالي خمس سنوات وقت العطلات الصيفية حتى دخلت إلى كلية الفنون الجميلة، وقدَّمت المسابقة وكانت مُتمكِّنة جداً في الخطوط والألوان.. وكونها الفتاة الوحيدة لأهلها فقد اعتنوا بها عناية بالغة، وكانت تعيش مع نفسها ولها عالمها.. وعالمها ألا يكون لديها مشكلة نفسيَّة في الرسم.. وعندما دخلت الكلية كانت الأولى في المسابقة حيث قالت: (كانت فرحتي لا توصف لأنني فزت بالدرجة الأولى بين فنانين أقوياء جداً، وكانت المنافسة على أشدّها.. كنتُ حريصة ألا أفشل، وأن أُثابر في موادي النظرية حتى يكون معدَّلي جيداً، وهكذا تحوَّلتُ من طالبة عادية إلى متفوِّقة ألحقُ بالمُربِّين وأسألهم.. أدخل لساعات طويلة إلى المكتبة إذا ما سمعت معلومة من فنان كبير أثناء فحص المعلومات لأبحث وأتقصَّى بدافع شخصي عن اسم أي تشكيلي ونشاطه وأعماله دون أن يُطلب مني ذلك.. وهذا الأمر ساعدني وكان إيجابياً في حياتي وانطلاقتي الفنية الأولى، ثم تخرّجت في كلية الفنون الجميلة- هندسة ديكور، في الوقت الذي تخرّجت فيه كان اسم الفرع «زخرفة» لأنه لم يكن يوجد اتصالات بصرية «أي إعلان» وأغلفة الكتب والقصص.. كان قسم الزخرفة يهتمُّ بالعمارة الداخلية وبالإعلانات وبالإخراج الصحفي..)، والفنانة حصلت على شهادة قسم الديكور بعلامات عالية كما قالت، وصاحب الاختصاص المذكور في ذاك الوقت يجب أن يكون مؤهَّلاً بعلامات ممتازة ولايزال.. مع أنها كانت تتمنَّى التخصُّص في النحت أكثر من الديكور؛ لكن النحت كان أضعف مادة وعلاماته قليلة، بينما العلامات العالية للديكور والتصوير.
وقد أحبَّت فنَّ الديكور كثيراً خلال الكلية، وكان لديهم دكاترة متمكِّنون كما قالت من بولندا وإيطاليا بجانب مجموعة متميِّزة من الأساتذة، وكانت لجينة من الدفعة الرابعة أو الخامسة المتخرِّجة في كلية الفنون، وعندما تخرَّجت أخذت مشروع «قاعة الاحتفالات الكبرى في مسابقة نادي الضباط الجديد» مع أحد زملائها، وهي لم تحتك بورشات النجارة والحدادة والعمل على الأرض.. كان كلُّ عملها كما أسلفت على الورق وعندما شرعت تعمل على أرض الواقع كانت تلتقي مع زبائن يريدون تنفيذ ديكورات للمحلات أو الصالات أو أي شيء آخر؛ لكنها لاقت صعوبات كثيرة، ولم تشعر بنفسها في هذا العمل، كما أُتيحت لها فرص كثيرة تشمل مجالات مختلفة كمجلة أسامة، الجديدة الإصدار عام ١٩٦٩، والفرصة الثانية التي سنحت لها مصمِّمة للإعلان، وقد أحبَّت هذه الأعمال أكثر لأنها أدخلتها إلى عالم الألوان، حسب وصفها، رغم خوفها الشديد، وأصبح عملها بين مجلة أسامة والمؤسسة العربية للإعلان، وكانت مؤسسة الإعلان آنذاك مشرفة على الحملات الإعلانية القائمة بها الشركات
والقطاع العام والخاص، لذا شرعت تعمل بشغف في الرسوم المُتحرِّكة، كما عملت بجانب هذا برامجاً للرائي لأنها نالت شهرة واسعة في مجلة أسامة كرسَّامة ومُعدِّة لبرامج الأطفال، وكانت تسير مع الأحداث، وتستفيد من دراستها في العمارة الداخلية، المنسجمة مع ميولها وطموحها للمتابعة والمثابرة في مجال الديكور المسرحي الجامعي ما بين الفن والأدب معاً، وعام ١٩٦٩ هو العام الذي تخرَّجت فيه لجينة كما تأسَّست فيه مجلة أسامة، وكان مكتبها في مبنى مديرية المسارح آنذاك، وكانت دائمة التردُّد إليه خلال عملها في ديكور اِحدى المسرحيات.. ومن باب الفضول طلبت أن ترسم في المجلة، وكانت فرحتها لا توصف عندما رأت رسوماتها على صفحات المجلة دون أن تعلم أن تلك الرسومات سوف تُشكِّل نقطة تحوّل بالنسبة لها عندما انتشرت في الوطن العربي بأجمعه، محقِّقةً نجاحاً باهراً، لذا أخذت المؤسسة العربية للإعلان جزءاً كبيراً من حياتها، حسب وصفها، لمدة أربع عشرة سنة، وأصبحت رئيس قسم، ثمَّ عملت على توسيعه، فأصبح في القسم عشرة موظفين وستة فنيين، وصارت ثقتها بنفسها أكبر، وتعرَّفت إلى أشخاص كثيرين، ولاقت شهرة واسعة النظير، وعملت رزنامات وأجندات في المرحلة الأخيرة.. ولم يعد لديها وقت كي تعمل تصاميم فنية إذ صارت مضطرَّة لأن تكلِّف الشباب بذلك كونها فقدت متعة التصميم، وأصبحت تحضر لجاناً؛ وتبتعد عن العمل، كما صار لديها شغل كثير خارج المؤسسة «الرسوم المتحرِّكة التلفزيونية، ومجلة أسامة، ومجلات عربية أخرى» إلى جانب عملها في المؤسسة العربية للإعلان، وكانت تشعر بأنها تضيع في العمل لمدة ستِّ ساعات قبل الظهر بدون فائدة كي تضبط كلَّ الوقت في المساء عدا أنَّ لديها عائلة، وكانت حريصة على أن تكون قوية ومتماسكة لأنها عانت من انفصال والديها فكانت تبحث عن تكريس وقت لأسرتها حتى تتابع حياتها الاجتماعية.
قالت الفنانة: (رسمت للأطفال، ولم أكن متوقّعة أبداً أنَّ هذا سيؤدِّي لأن أكون رسَّامة للأطفال.. كنت أريد أن آخذ مشروعاً أو اثنين عن مسرح الأطفال مع حديقة بمجسَّمات كبيرة لهم، لأنَّ اختصاصي ديكور، وكنت أحبُّ المسرح لارتباطه بالأدب وخاصةً الأدب العربي، وعندما كلَّفني الفنان عادل أبو شنب برسم صور لقصة الشيخ والبحر سافرت إلى طرطوس بشكل خاص، ولم يكن لدينا في ذاك الوقت سهولة الانترنت والكاميرات المحمولة.. كان كلُّ شيء صعباً ويأخذ وقتاً أكبر فذهبت إلى الساحل وعشتُ أجواء البحر والهدوء في فصل الشتاء لأرسم صفحتين من المجلة، وأعيش عالمها ثم عشقتُ هذا العمل؛ ولم أكُ منتبهة لتعلُّقي الشديد به، وكنت بجانب هذا أعمل في القطاع الخاص وأنال أجراً كبيراً.. أكبر بكثير من مجلة أسامة).
كانت لجينة تعمل بهدوء في الليل، مُنفِّذةً رسومات ساحرة، وأضافت: (إنها مُتمرِّسة جداً ومُتمكِّنة أكثر من بقية الفنانين في الرسم والمناظر المحتاجة للمنظور، حيث ترسم الغرفة والمنازل، مُجسِّدةً العمق والبعد اللوني بشكل متقن فيظهر في المبنى القريب والبعيد)..فتحية لروح للفنانة الراحلة جسداً والباقية اسماً خالداً مدى العمر.
العدد 1202 – 27 -8-2024