بالرغم من أن الانتخابات الرئاسية الأميركية حدث داخلي يتعلق من حيث آليته بالمواطن الأميركي إلا أن هذه الانتخابات يتابع نتائجها ومراحلها عشرات الملايين من سكان العالم وتستقطب الرأي العام العالمي ولا شك أن لهذا الأمر أسبابه الموضوعية أولها وأهمها أن أميركا سواء أحببناها أم كرهناها كسياسة طبعاً وليس كشعب هي من يقود النظام الدولي الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية وحتى الآن بالرغم من وجود قوى أخرى لها موقعها الريادي في ذلك كروسيا والصين وغيرهما فعناصر القوة الأميركية سواء العسكرية أو الاقتصادية او التكنولوجية أو المالية أو الإعلامية توظف لخدمة السياسة الخارجية الأميركية وتستعمل كأدوات تأثير في سياسات الدول الأخرى سواء كانت قوة صلبة أو ناعمة أو ذكية وبالتالي تصبح السياسة التي تنتهجها أي إدارة أميركية سواء كانت ديمقراطية او جمهورية مؤثرة وفاعلة في المشهد الدولي علماً أنه لو قمنا بعملية سبر للفارق بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي على صعيد العلاقات الخارجية لاكتشفنا أن لا فارق كبيراً بينهما لأن السياسة الخارجية الأميركية تصنعها الحكومة العميقة في تلك الإمبراطورية فالمنافسة بين مرشحي الحزبين على الصعيد الأميركي تتعلق بشكل أساسي على السياسات الداخلية ولاسيما القضايا الاقتصادية والهجرة والإجهاض ودعم التعليم والصحة والضرائب وقضايا البيئة عناوين داخلية.
ولعل من يتابع المناظرة التي جرت قبل عدة أيام بين المترشحين للرئاسة كامالا هاريس ودونالد ترامب يكتشف ذلك فمساحة الحديث عن السياسة الخارجية لم تنل من المناظرة إلا عدة دقائق فقط إضافة إلى أن استطلاعات الرأي العام المتعلقة بأداء وسياسة المترشحين لم تتطرق إطلاقاً للقضايا الخارجية لا بل ان الاصطفاف الحاصل بين الحزبين على مستوى الولايات يكاد يكون محسوماً 43 ولاية وتنحصر المنافسة الحاسمة في سبع ولايات.. ثلاث في الشمال وأربع في الجنوب وتسمى الولايات المتأرجحة التي لا تعرف اتجاهاتها الانتخابية لمصلحة من.. وترتبط نتائجها بقدرة إقناع أي من المرشحين على استمالة ناخبيها وبالتالي الحصول على حصتها في المجمع الانتخابي (الكوليدج) وهذه الولايات هي بنسلفانيا ووسكنسن وميتشيغان وجورجيا وأريزونا ونيفادا ونورث كارولاينا وكل هذه الولايات ربحها الرئيس بايدن في الانتخابات الأخيرة وفاز على ترامب وبفارق ضيئل لم يتجاوز احياناً عشرة آلاف صوت لذلك نرى أن جولات المترشحين للرئاسة تكاد تنحصر في تلك الولايات.
وتشير آخر استطلاعات الرأي العام بعد المناظرة الأخيرة بين هاريس وترامب إلى أن هاريس تتقدم عليه في هذه الولايات بفارق نقطتين مع هامش خطأ هو واحد بالمئة ولعل ما يميز الانتخابات الأميركية الحالية هو الاستقطاب الحاد بين المترشحين حيث استطاع ترامب ان يشكل تيار خاص به من اليمين الأميركي بغض النظر عن حزبه الجمهوري والمفارقة هنا أن بعض الأعضاء القياديين في الحزب الجمهوري انفضوا عنه بسبب خطابه وسلوكه المتطرف واستعدائه للمهاجرين والأميركيين من أصول غير انغلوسكسونية.
وإذا كان ذلك هو واقع الحال وان ثمة قناعة بأن السياسة الخارجية الأميركية تسير وفق ثوابت ترسمها الحكومة العميقة فلماذا كل هذا الاهتمام بالانتخابات الأميركية.. وللإجابة على هذا السؤال يمكننا أن نحيل ذلك لأسباب منها قدرة الإعلام الأميركي وسطوته ونفوذه واستطالاته العالمية ونقله للحدث والذكاء الإعلامي في تلك العملية والتغطية الواسعة لذلك وعملية تضخيم الدور الأميركي على مستوى العالم وتشكيل انطباع عام لدى الرأي العام العالمي بأن نتائج الانتخابات سيكون لها تأثير على المشهد الدولي من خلال التركيز على الدور الخارجي لاميركا وثباته أو تغيره وفق تلك النتائج أخذاً في الاعتبار أن للمترشح الحالي عن الحزب الجمهوري دونالد ترامب له مقاربة خاصة في السياسة الخارجية حيث يقدم العامل الاقتصادي على الجيوسياسي بمعنى الحماية والتحالف مقابل المال ويقدم أميركا على أنها خارجياً شركة أمنية تحميها مصالحها الداخلية فقط وليس مصالح حلفائها حتى لو كانوا من حلف الناتو تحت عنوان أميركا أولاً واتباعه سياسة الحمائية ومنع الهجرة الى أميركا وهذا يصطدم بالفكرة الأميركية التي تأسست على الهجرة والمهاجرين واستقطاب العقول المهاجرة ولعل هذا الأمر هو من يثير حفيظة حلفاء أميركا ولاسيما الأوروبيين وغيرهم الذين يعتقدون أن المظلة الأميركية السياسية والعسكرية هي من حمتهم من تحديات خارجية مع تشكل انطباع راهني عند دول كثيرة بأن حلفاء أميركا لا يثقون بها وأعداءها لا يخشونها.
ولاشك أنه بالإضافة إلى ما تمت الإشارة إليه تبدو التجربة الديمقراطية الأميركية ذات خصوصية صقلت عبر مئات السنين ومنها أنها تسمح لأي أميركي ضمن شروط معينة أن يكون رئيساً سواء كان انغلوسكسونيا أو من الملونين ولعل نجاح باراك أوباما في ولايتين رئاسيتين وترشح امرأة من أصول آسيوية وإفريقية هو مؤشر على نجاح التجربة الأميركية في تكريس فكرة المواطنة والحقوق والواجبات والصهر العرقي والقومي والديني في ظل تنامي اليمين المتطرف في أوروبا الغربية وصعوده السياسي وما يكرس أميركياً مقولة أن أميركا مملكة الفرص المتساوية بالنسبة لمواطنيها.
إن الحديث عن الانتخابات الأميركية وعالمها لا يلغي حقيقة أن الولايات المتحدة الأميركية المعجبة بديمقراطيتها وثمة معجبين بها ولكنها سياسياً وعلى المقلب الآخر نجدها لا تقبل إلا نموذجها الديمقراطي ولا تعجبها نتائج أي ممارسة ديمقراطية لا تأتي نتائجها وفق دفتر الشروط الأميركية ومنها ما جرى في دول اميركا الجنوبية كتشيلي وقتل رئيس منتخب هو سلفادور اليندي وتنصيب دكتاتور هو بينوشيه وكذلك الانتخابات الفنزويلية وفوز الرئيس مادورو إضافة لدعمها لرؤساء وملوك مستبدين وقتلة لا تعرف بلدانهم معنى الديمقراطية من هنا نصبح أمام ديمقراطية اميركية داخلية في اختيار رؤساء لأميركا يختارها أميركيون وديمقراطية سياسية خارجية يختار رؤساها وفق دفتر شروط أميركية وليس معايير وطنية داخلية وسيادية تعبر عن تجربة ديمقراطية خاصة بكل بلد وشعب ارتضاها لنفسه وقد لا تعجب الآخرين.