الملحق الثقافي – حسين عمر سعيد:
من الجميل أن تقرأ قصيدة كتبها شاعر عاش قبل ألف عام، وتجد فيها صدى لما تعيشه أنت اليوم؟ قدَّم لنا الدكتور وليد حسين في كتابه «جدل التضاد في شعر الباخرزي»، تجربة فريدة من نوعها, ففي زمننا هذا، حيث تتسارع وتيرة التغيير وتزداد التعقيدات، نجد أنفسنا نعود إلى هذا الشاعر العباسي لنكتشف أن همومه وتساؤلاته لا تزال تُردد صداها في نفوسنا. وفي عالمنا المتصل بشبكة الإنترنت، حيث تتدفق علينا الأخبار من كل صوب، قد نعتقد أننا نعيش في عصر جديد تماماً، لكن الحقيقة هي أن الإنسان لم يتغير كثيراً. من المسائل التي أشار المؤلف د.وليد الحسين إليها: الكيفيّة التي يربطنا الباخرزي عبرها بالعالم المعاصر؟ عندما نقرأ عن تضادات الباخرزي بين الحياة والموت، بين النور والظلام، بين الأمل واليأس، فإننا لا نقرأ فقط عن شاعر عاش في زمن مختلف، بل نقرأ عن أنفسنا، فكثيرٌ منا نعيش هذه التناقضات في حياتنا اليومية، إذ قد نكون ناجحين في عملنا، ولكننا نشعر بالوحدة.. وقد نحظى بصحة جيدة، لكننا قلقون بشأن المستقبل. وقد تميز شعر الباخرزي بالقوة والجمال، وهو الذي عاش في عصر ازدهرت فيه اللغة العربية، فاستخدم لغة قويةً جميلة رغم وعورتها، ومما زاد في قوته تناول شعره قضايا وجودية وإنسانية مهمة للجميع، بصرف النظر عن الزمان والمكان، فوراء كل كلمة، هناك عالم من المعاني والدلالات التي تستحق التأمل. ويمكننا أن نستلهم من شعره الكثير، وأن نتعلم كيف نواجه تحديات الحياة بالأمل، ونجد المعنى في وسط الفوضى. يفتح لنا الدكتور وليد حسين (الحاصل على درجة الدكتوراه في الأدب العباسي والمهتم بمجال الدراسات النقدية الأدبية عموماً) في كتابه المذكور نافذة واسعة على عالم الشاعر الباخرزي، متجاوزاً التحليل السطحي لأشعاره ليغوص بأسلوبٍ رصين في أعماق المعنى والتعبير الفني، ويستكشف تلك التناقضات التي يتناولها في شعره، فيقدم قراءة لشاعرٍ يُعتبر من أهم شعراء العصر العباسي، فمن خلال تحليل دقيق للثنائيات المتضادة في شعر الباخرزي، يتكشّف لنا الفكر الفلسفي للشاعر ورؤيته الحادة للحياة، وذلك بدءاً من التحليل الدلالي للكلمات والمعاني وصولاً إلى دراسة السياق التاريخي والاجتماعي الذي نشأ فيه الشاعر، ليعبّر عن تجربته الإنسانية المعقدة من خلال اللعب على أوتار التضاد، إضافة إلى استخدامه للثنائيات المتضادة أداة فنية للتعبير عن تجربته الحياتية والفكرية. الكتاب يتميز بمنهجه العلمي، وتحليل النص الشعري اعتماداً على الأدوات النقدية الحديثة، والعديد من المصادر والدراسات السابقة لتدعيم آرائه واستنتاجاته، لإبراز التقابلات المُتضادة، الظاهر منها والمشفّر « كتوريةٍ وتعمية « تشحذ الذهن والخيال، فجاءت ضمن ثلاثة فصول كل منها يتناول نوعاً معيناً من الثنائيات المتضادة, في النواحي الفكرية والاجتماعية والاقتصادية مع خاتمة للكتاب تجمع نتائج قراءات الباحث لنصوص الباخرزي. معنى «جدل التضاد» في العنوان: يشير العنوان «جدل التضاد» إلى الصراع والتفاعل بين الأضداد (تقابل مَعنيين أو فكرتين متعارضتين( في شعر الباخرزي , ضمن جدلٍ بنّاء يتمثل في خلق توتر داخل النص الشعري, يحاكي تجاربه الحياتية والفكرية ورؤيته للعالم, واستخدامه اللغة الشعرية للتعبير عن جوانب متضادة من التجربة الإنسانية من خلال صراع المعاني. وتعتبر الثنائيات المتضادة أداةً فنية تعطي النص الشعري عمقاً وحركة، لإبراز المعاني وتنوعها, وتعكس التناقضات التي يعيشها الإنسان في حياته، وتسهم في فهم النفس البشرية. درس المؤلفُ الثنائياتِ المتضادة في شعر الباخرزي من عدة جوانب، حيث قام بتحليل دلالاتها الرمزية ، وكيف تعكس رؤية الشاعر للعالم: النواحي الفكرية: تناول ثنائيات مثل الحياة والموت، والشباب والشيب، والخوف والأمن, وأظهر كيف استخدم الباخرزي هذه الثنائيات للتعبير عن قضايا وجودية عميقة, فهو القائل: ولي أملٌ غض الشباب طريّهُ وذاك لشيبٍ في نواصي وسائلِ وصحبــــــةُ أيامٍ مضـــينَ كأنّما هواجرها تكــــسي ظلال الأصائلِ النواحي الاجتماعية: بحث المؤلف في ثنائيات مثل العزة والذلة، والحب والكره، والفرح والحزن, وكيفية انعكاس التناقضات الاجتماعية على شعره. يقول: كرهــــتُ قــــلعَ خيامي من مرابعــــــه كأنـــــه قــلعُ أظفاري وأنيــــــــابي أحببتُ طولَ مقامي مااسترحت به عن أن يزيدَ مزيد الحب أغبابي النواحي الاقتصادية : تناول المؤلف ثنائيات مثل الكرم والبخل، والغنى والفقر، والنصر والهزيمة, ليعبر الشاعر عن التفاوت الاجتماعي والاقتصادي : وأبيضَ فيّاض يداهُ غمامةٌ على معتفيه ماتهبُّ فواضله تراهُ إذا ماجــــــئتهُ مـــــتهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله وهنا لم يكن ذلك مجرد زينة لغوية، بل كان أسلوباً فنياً أبرز الجماليات وأدّى إلى تعميق المعنى، حيث يعيش الإنسان في حياته ضمن هذه التناقضات . وقد أجمل الكاتب نتائج بحثه في الخاتمة أهمها : كيف تجلت اللغة الشعرية العالية عند الباخرزي بما فيها من تشفير ومفارقة انزياحيه بلغة معجمية تعتمد على الغموض الفني الايحائي بطريقة شعرية عميقة وجديدة واقعية غير مبتذلة في الخيال، فيأتي التضاد حاضراً في البيت الواحد , وأحياناً غامضاً, بلغته العالية المعتمدة على آليتي الحذف والإضمار (التورية والتشفير) حيث اتكأ في نصوصه الشعرية على التناص، كما أضاف الباحث بطريقته مستدلاً على سنة مولد الباخرزي المجهولة والتي حددها نحو 418 هــ -1028 م . وتميزت دراسة د. حسين بالعمق والشمولية فقدم المؤلف تحليلاً شاملاً لظاهرة التضاد ، واعتمد على منهجية علمية دقيقة في تحليله للنصوص الشعرية، مستشهداً بالمصادر والمراجع , وتميزت الدراسة بوضوح العرض ، مما يجعلها في متناول الباحثين والدارسين ويحثّ القارئ المختص والذكي على التفكير النقدي وتحليل النصوص الشعرية بعمق. ويمثل الكتاب باعتقادي إضافةً مهمة إلى المكتبة العربية لإحياء التراث الشعري العربي، وإعادة قراءة وتقييم شاعر مهم مثل الباخرزي، ويفتح آفاقاً للبحث النقدي ويشجع الباحثين عليها. والكتاب ليس مجرد دراسة نقدية، بل دعوة لقراءة جديدة، نكتشف بها أن الشعر ليس مجرد ترفٍ أو تسلية، بل هو مثل مرآة تعكس لنا أنفسنا, إنه يذكّرنا بأننا جزء من سلسلة طويلة من البشر الذين عاشوا وتأملوا وكتبوا وأننا مهما اختلفت ظروفنا، فإننا نشاركهم جميعاً في تجربة واحدة هي التجربة الإنسانية.
العدد 1210 – 22 – 10 -2024