كانت أكثر استطلاعات الرأي العام في أميركا تشير أو ترجح فوز المرشحة الرئاسية كاملاً هاريس في انتخابات الخامس من تشرين الثاني وبفارق لا يقل عن نقطة أو نقطتين ولكن الذي حدث عكس ذلك تماماً حيث حقق ترامب فوزًا صريحاً وواضحاً وبفارق كبير عن منافسته لا بل إن الحزب الجمهوري حقق نجاحاً غير مسبوق في حصوله على الأغلبية في مجلسي النواب والشيوخ ما يمكن الرئيس الأميركي من تمرير سياساته بسلاسة ومن دون أية اعتراضات ومعوقات كما حصل في رئاسته السابقة، والسؤال الآن كيف تمكن ترامب من الفوز ليشكل سابقة في انتخابات الرئاسة الأميركية لم تحصل منذ أكثر من مائة سنة وفي ظروف سياسية وتعقيدات وإشكالات حول شخصيته وسلوكه ومحاكماته وما وجه إليه من اتهامات ودعاوى زادت على 34 دعوى ووصلت إلى حد إدانته بجرائم يعاقب عليها القانون الأميركي، واستطاع تجاوز الكثير منها علماً أن بعضها لازال منظورًا به أمام القضاء الأميركي ” وللإجابة على ذلك يمكننا النظر للمسألة من زوايا مختلفة تتعلق بشخصيته وأسلوبه الحواري وطريقة تعاطيه مع الجمهور وصورته في الرأي العام وعند مناصريه ناهيك عن فريقه الخاص بحملته الانتخابية وطريقة تسويق أفكاره، ناهيك عن الخلفية الثقافية والسياسية للشعب الأميركي وخصوصياته والعناصر التي بنيت عليها الفكرة الأميركية من حيث الأساس وكانت الدافع والمحرك لملايين المهاجرين من أصقاع أوروبا والمنافي للهجرة للقارة الجديدة مملكة الفرص المتساوية كما يحب الأميركيون وصفها، والنواة الصلبة فيها أن الحلم يتحقق عبر المغامرة والمجازفة ولعل هذه الفكرة انطبقت تمامًا على المرشح للرئاسة الأميركية دونالد ترامب حيث تمسك بحلم دخول البيت الأبيض وهو من خارج النخب السياسية ثم أعاد إنتاج ذلك الحلم بعد ما تعرض له من انتكاسة وخسارة في الانتخابات التي جرت عام 2020 والتي لم يعترف بنتائجها شأنه شأن القرصان الذكي في الثقافة الأميركية الذي لا يمنعه الفشل المتكرر من الاستمرار في المحاولة وصولاً للنجاح أياً كان الثمن ولو كان على حساب القراصنة الصغار؟.
وإلى جانب هذا العنصر السيكولوجي الذي أراه أساسيًا في النجاح الذي تحقق كونه يشكل عنصرًا فاعلاً في العقل الباطني الأميركي وسيكولوجيا الجماعة الأميركية، إلا أن ثمة عوامل أخرى ساهمت في نجاحه منها أن شعبيته في الأوساط الأميركية ارتكزت إلى شعبويته، بالرغم من أنه من كبار رجال الأعمال وملياردير ثري، ولكنه امتلك لغة الحوار مع الطبقات الوسطى والفقيرة ودغدغ مشاعرها وهذا ما كان يلاحظ عليه في لقاءاته وحملاته الانتخابية، فالكل شاهده في أهم ولاية متأرجحة وهي بنسلفانيا يرتدي لباس عمال النظافة ويشاركهم عملهم وكذلك مع الرياضيين والمغنين يغني ويرقص أمام وسائل الإعلام وهو المتحالف مع إيلون ماسك المسوق لتلك الصورة عبر أهم شبكات التواصل الاجتماعي ومنصة إكس.
فقد اعتمد ترامب في حملته الانتخابية على ما لا يمكن تسميته الدبلوماسية الشعبية بدل لغة الخطاب السياسي النخبوي وانطلق من مطابخ الطعام وحاجات المواطنين ومعيشتهم وليس من مطابخ السياسة ولغتها المقعرة ففتح شهية الناخبين ودفع بهم إلى صناديق الاقتراع الذين كانوا محجمين عنها ولاسيما سكان الريف الأميركي ومدن الصفيح حيث تشير التحليلات التي أعقبت نجاحه إلى أنه استطاع ولوج مساحات الفراغ التي خلفتها الانتخابات السابقة ولاسيما الشباب الذين هم في سن العشرينيات من العمر حيث شكلوا كتلة وازنة في الولايات المتأرجحة والتي يتحقق النجاح فيها والفوز بحصتها في المجمع الانتخابي بفارق قليل من الأصوات وهو الأمر الذي حصل بالفعل.
إن الحديث عن عناصر الفوز الذي حققه ترامب وحزبه الجمهوري لا يلغي حقيقة أن ثمة عناصر أساسية أخرى ساهمت في فوزه بالانتخابات منها صورته في الوعي الجمعي عند قطاعات واسعة من الشعب الأميركي من خلال حديثه عن إعادة إنتاج الحلم الأميركي وأن أميركا أولًا وليس أوروبا واليابان وكورية الجنوبية إضافة إلى حملته على المهاجرين غير الشرعيين وتعهده بطردهم من أميركا حيث وصفهم بالمجرمين واللصوص وسارقي الوظائف وهذا يدغدغ عواطف ملايين الأميركيين بما فيهم المهاجرين من نفس البلدان التي قصدها ترامب ناهيك عن أن ترامب يمثل قاعدة شعبية من المحافظين الجدد الأنغلوساكسون تزيد على 80 مليونًا تشكل النواة الصلبة لمحفظته الانتخابية الثابتة في ظل تصاعد لليمين المتطرف في أوربا وحفيدتها الطبيعية الولايات المتحدة الأميركية.
ولاشك أن استمرار ترامب في دائرة الأضواء السياسية والإعلامية والنفس الطويل الذي امتلكه وعدم دخوله مربع اليأس وروح التحدي للإدارة الأميركية القائمة واتهامها بالتقصير وإضعاف صورة أميركا في العالم وتخاذلها في بعض القضايا وإنفاقها مليارات الدولارات في أوكرانيا وغيرها على حساب دافع الضرائب الأميركي وهذه نقطة حساسة وجوهرية في أولويات الناخب الأميركي جعله يكسب أصوات عشرات الملايين من الناخبين الأميركيبن سواء كانوا في الحزب الجمهوري أو الديمقراطي فثمة قضايا عند المواطن الأميركي تتجاوز الانتماء الحزبي الى دائرة المصالح والمنافع في مجتمع هو النموذج في البراغماتية واستاذها، وهنا تجدر الإشارة الى أن ادعاء البعض بأن لليهود الأميركيين الدور الكبير في فوز ترامب قول غير صحيح ويكذبه الواقع فمعظم اليهود الأميركيين وعددهم نحو ستة ملايبن يعيشون في نيويورك ومحيطها وهي ولاية محسومة تاريخيًا لصالح الحزب الديمقراطي وتذهب أصوات حصتها في المجمع الانتخابي لصالح ذلك الحزب ومرشحيه بشكل تقليدي، ولكن هذا لا يلغي حقيقة أن اللوبي اليهودي قوي في أميركا ومؤثر على مستوى القرار السياسي واستطالاته في المؤسسات الأميركية بمستوياتها المختلفة ولاسيما (أيباك ) ولكن ليس في حسم نتائج الانتخابات الرئاسية لصالح هذا المرشح أو ذاك وعلى وجه العموم استطاع ترامب وحزبه تحقيق نجاح غير مسبوق في تاريخ الانتخابات الأميركية وشكل علامة فارقة فيها وربما مفاجأة عند البعض ولكن من يتعمق في الثقافة السياسية والاجتماعية الأميركية يعرف جليًا أن المجتمع الأميركي هو صانع ثقافة الوجبات السريعة والروك أند رول والصرعات بأشكالها المختلفة فالتغير والتجدد سمته الأساسية حتى على المستوى السياسي وليس لديه أية قواعد صارمة سواء كانت أخلاقية في نظر البعض أو غير ذلك في موضوع تحقيق النجاح والربح والمكاسب انطلاقًا من مسألتين أساسيتين في الثقافة الأميركية أولهما أن أميركا مملكة الفرص المتساوية، وثانيهما أن النجاح له قوة القانون، وهذا جوهر المكيافيلية.