الثورة – عمار النعمة:
من المعروف عند علماء اللغة أنها- أي اللغة- لا يمكن أن تبقى هكذا، فهي كائن حي يجب أن ينمو ويتطور وكثرة استعمال المفردات تجعلها يباساً لا قيمة لها، ومن أهم ملامح وعوامل تطورها واتقاد جمرها ومعناها الشعراء الذين يملكون الخيال المبدع لا النظم.
وهنا نذكر أبا تمام الذي قيل له: لماذا لا تقول ما يفهم، فرد: ولماذا لا تفهمون ما يقال.. وهو من أوائل المجددين في اللغة وكذلك “أبو نواس”.
وقد أشار إلى ذلك أدونيس في كتابه (مقدمة للشعر العربي).
وإذا توقفنا في العصور الحديثة عند تجارب التجديد سنجد ذلك مع دعوة جبران خليل جبران الشعراء إلى تجديد اللغة (فمنذ بدايات القرن العشرين كانت اللغة العربية موضع اهتمام الكتّاب والنقاد بعد التخلص من لوثة العجمة، ومن الطبيعي أن تتضافر الجهود للنهوض بها، وكانت مجلة الهلال المصرية قد توجهت بأسئلة حول مستقبل اللغة العربية لعدد من الكتّاب والشعراء، ومن هؤلاء جبران خليل جبران المجدد في كل شيء، وحول سؤال: ما هو مستقبل اللغة العربية؟ قال جبران خليل جبران: إنّما اللغة مظهر من مظاهر الابتكار في مجموع الأمة، أو ذاتها العامّة، فإذا هَجَعت قوّة الابتكار، توقَّفت اللغة عن مسيرها، وفي الوقوف والتقهقر الموت والاندثار.
إذاً فمستقبل اللغة العربيّة يتوقّف على مستقبل الفكر المبدع الكائن– أو غير الكائن– في حالة النمو والتمدّد، وكان يتشعَّب أيّام المولَّدين، لأنّ الأُمة الإسلامية كانت في حالة التشعّب، وظلّ الشاعر يتدرّج، ويتصاعد، ويتلّون فيظهر آناً كفيلسوف، وآونة كطبيب، وأخرى كفلكيّ، حتى راود النعاس قوة الابتكار في اللغة العربّية، فنامت، وبنومها تحوَّل الشعراء إلى ناظمين، والفلاسفة إلى كلاميين، والأطباء إلى دجّالين منجِّمين.
ومن بعده أمين الريحاني، ومن ثم حمل الراية أدونيس منذ كتابه الثابت والمتحول.
التقط الشعراء المبدعون جمر اللغة واتقد المعنى كما عند محمود درويش في قوله:
وطني! يعلمني حديد سلاسلي
عنف النسور، ورقة المتفائل
ما كنت أعرف أن تحت جلودنا
ميلاد عاصفة.. وعرس جداول
سدّوا عليّ النور في زنزانة
فتوهّجت في القلب.. شمس مشاعل
كتبوا على الجدران رقم بطاقتي
فنما على الجدران.. مرج سنابل
رسموا على الجدران صورة قاتلي
فمحت ملامحها ظلال جدائل
وحفرت بالأسنان رسمك دامياً
وكتبت أغنية العذاب الراحل
أغمدت في لحم الظلام هزيمتي
وغرزت في شعر الشموس أناملي
والفاتحون على سطوح منازلي
لم يفتحوا إلا وعود زلازلي!
لقد أبدع الشعر في إشعال النار والمعاني الجديدة للمفردات العادية (حديد، نار، سسلاسل، أسنان لحم، ظلام، سطوح وغيرها…) وهي مفردات غير شاعرية ومعناها محدود، ولكنها هنا أخذت المعنى الواسع وتجدد المعنى الذي يأخذك إلى فضاءات الشعر المحلق.
وعند أمل دنقل نجد التجديد في قصيدته لا تصالح وكذلك البكاء بين يدي زرقاء اليمامة.
أما سعاد الصباح الشاعرة الكويتية فهي المتمردة أيضاً على تجنيس للإبداع أنثوي وذكوري وكذلك اللغة.
ومن التجارب الشعرية المهمة في الشعر الأنثوي التي استطاعت أن تعطي اللغة معنى جديداً وتخلخل الثوابت تجربة الدكتورة سلمى جميل حداد في كل أعمالها الشعرية الصادرة لحد الآن مثل: أحبك لكني.. الرجل ذلك الكائن المشفر.
أوشوش نفسي وأهرهر قلقي.. أتجاذب معك أطراف الحريق.
يلاحظ المتابع أنها تستخدم صياغة المشاركة في الصرف (أهرهر، أتجاذب) المفاعلة الصاخبة التي تعني المواثبة، لكنها جددت المعنى وجعلت من اللا معنى الشعري شعراً.
وفي آخر إصدارتها (القطار السريع إلى لا أدري) تقفز بوثبة عالية في تجديد المعنى وجعل الجملة العادية نصاً مسبوكاً مشحوناً بدلالات الطاقة الإبداعية مثل قولها:
– التذكرة سيدتي!
لأني الغائبة لا حضور لسواكَ
يسيل من أحباقكَ الرحيلُ المعتّق
يفتح للبكاء شهيةَالبكاء،
سيدة التوتر أنا
وأضلع صدري أقسى سجون الاعتقال
أبحث عن مسكنٍ لروحي الشريدة
منفصلة كذرّة.. متصلة ككون
لا فضاء يحتويني
لا الزمان ولا أبعاد المكان
وذاكرةٌ على أنقاض ذاكرةٍ على ركام،
كيف أمنح ثقتي المطلقة لحواسٍّ خمسْ
وكيف أتحرر من سطوة اليوم وغده والأمسْ؟
أنا الصغرى.. أنا الكبرى.. أنا الوسطى
على أنقاض ذاكرتي تطلع الشمسْ.
وفي مقطع آخر تقول:
صباح الخير أيها العالم المتّشح بالدم..
بمقابر الأشلاء المختلطة وعظام الموت،
صباح الخير أيها العالم
المستيقظ على مهل فنجان قهوته السمراءْ
وقطعة حلوى ومكعب سكّر وكأس ماءْ،
صباح الخير أيها العالم
الناهض من سريره الدافئ وأحضان من يحب،
صباح الخير أيها العالم
المستحمّ بالماء الدافئ ورغوة الصابون
كي يبدو أجمل وأرقى وأنظف،
صباح الخير لربطات العنق الأنيقاتْ
وأزرار القمصان الملوناتْ
وأحذية الخطوات الملمّعاتْ،
صباح الخير أيها العالم المليء بالتناقضاتْ.
إنهم الشعراء وحدهم يجددون اللغة ويعيدون صياغة العالم وصقل اللغة التي تيبست من كثرة الاستعمال كما قال أدونيس.