الثورة – ديب علي حسن:
بداية قد يكون العنوان صادماً، ولكنه أيضاً ناقص، فالفكرة تقول- كما قالها دولوز (الإبداع هذيان لاختراع شعب ناقص)، هذا ما جاء في كتاب “نقد وعيادة” تأليف: جيل دولوز، ترجمه إلى العربية عدنان محمد، وقد صدر عن دار بحر، التي تشرف عليها وتديرها الكاتبة المبدعة هالا خليل، وقد اختارت مع المؤلفين والمترجمين مجموعة مهمة من العناوين التي سيكون لنا وقفات معها.
– الأدب علاج:
يرى المؤلف، مع مجموع الأعراض التي يختلط مرضها مع الإنسان، يظهر الأدب على أنه مشروع صحة، وهذا لا يعني أن يتمتع الكاتب بصحة كبيرة بالضرورة، بل أن يتمتع بصحة صغيرة رائعة تتأتى مما رآه وسمعه من الأشياء مفرطة الكبر بالنسبة إليه، ومفرطة القوة بالنسبة إليه، وعديمة القدرة على التنفس، والتي ينهكه مرورها، مع أنها تعطيه صيرورات تجعلها الصحة الضخمة المهيمنة مستحيلة.
وحسب المؤلف يعود الكاتب محمر العينين ومثقوب غشاء الطبل مما رأى ومما سمع، أي صحة تكفي لتحرير الحياة في كل مكان هي سجينته، بوساطة الإنسان وفيه؟ ومثال على ذلك صحة سبينوزا الصغيرة، بقدر ما كانت شاهدة حتى النهاية على رؤية جديدة على دور الإبداع في حياته.
طبيب العالم
والكاتب بوصفه كاتباً ليس مريضاً، بل هو بالأحرى طبيب هو طبيب نفسه وطبيب العالم، والعالم هو والأدب بوصفه قضية صحة، أما بالنسبة إلى من لا يملكونها، أن لديهم صحة هشة، أيضاً، مكروه، يقول أحدهم : “قد نعلم ذات يوم أنه لم يكن هناك من فن، بل مجرد طب”.
ويضيف دولوز: تقوم الصحة بوصفها أدباً وكتابةً، على اختراع شعب ناقص، فمن خواص الوظيفة التخريفية أن تخترع شعباً.
فالمرء لا يكتب مع ذكرياته، إلا إذا جعل منها الأصل أو المال الجماعيين لشعب مقبل لايزال غائصاً تحت خياناته وإنكاراته، إن لدى الأدب الأمريكي هذه الخاصية في الأدب الذي ينتجونه، ولديهم القدرة الاستثنائية على إنتاج كتاب يستطيعون أن يرووا ذكرياتهم الخاصة، ولكن بوصفها ذكريات شعب كوني مكوناً من المهاجرين من البلدان كافة، فتوماس وولف نوم أمريكا كلها في تجربة رجل واحد وهو ليس بالتحديد شعباً مدعواً إلى السيطرة على العالم، قاصر أبدياً، مأخوذ في صيرورة – ثورية.
ربما لا يوجد في ذرات الكاتب إلا شعب هجين دوني مسيطر عليه، في صيرورة دائمة وغير منجز دائماً وكلمة هجين لا تدل على حالة عائلية، بل على سيرورة الأعراق أو على انحرافها، يقول (أنا حيوان، زنجي من عرق متدن من كل أبدية)، إنها صيرورة الكاتب كافكا بالنسبة إلى أوروبا الوسطى، وملفيل بالنسبة إلى أمريكا، يمثلان الأدب بوصفه تحرّراً جماعياً لشعب قاصر، أو لكل الشعوب القاصرة التي لا تجد تعبيرها إلا بوساطة الكاتب وفيه على الرغم من أن الأدب يحيل دائماً على وكلاء مفردين، فإنه ترتيب كلي لبيان الأدب هذيان ولكن الهذيان ليس مسألة أب- أم، فليس هناك من هذيان لا يمر عبر الشعوب والأعراق والقبائل، ولا يسكن التاريخ الكوني، كل هذيان هو- تاريخي- عالمي، انتقال أعراق وقارات.
خلاصة القول: بغض النظر عن الآراء وعن طقوس الإبداع وكيف تكون، وماذا يفعل المبدع في اللغة، الكتاب رحلة فكرية ونفسية وإبداعية عميقة الغور فيها الكثير من القضايا التي لا يمكن إيجازها، وهو عمل مهم جداً.
حتى العنوان الإشكالي (نقد وعيادة) يضعك أمام رحلة في التفسير النفسي للإبداع، يقع الكتاب في ٧٨ ٢ صفحة موزعة على ١٧ فصلاً متميزاً.

التالي