عمار النعمة:
صدر حديثاً عن الهيئة العامة السورية للكتاب، ضمن المشروع الوطني للترجمة لعام 2025، كتابٌ جديد يضيء على واحد من أكثر المفكرين الروس عمقاً وتأثيراً، هو الفيلسوف نيقولاي برديايف، في عمله المعنون: “الفكرة الروسية ورؤيا دوستويفسكي للعالم”، بترجمة متميزة أنجزها شاهر أحمد نصر ومالك صقور.
هذا الكتاب ليس مجرد دراسة أدبية عن دوستويفسكي، بل هو قراءة فلسفية معمقة في الروح الروسية ذاتها، كما تتجلى في كتابات أحد أبرز أدبائها، يقدّم برديايف رؤية متكاملة لمصير روسيا الفكري والروحي، متتبعاً تحولات الوعي الروسي من خلال جدليّة الصراع بين الشرق والغرب، والانقطاعات التاريخية، وأشكال التدين، والتناقضات الحادة في الثقافة الروسيّة.
يتناول برديايف بأسلوب تحليلي دقيق الأنموذج القومي الرّوسي، موضحاً كيف تأرجحت الرّوح الروسيّة بين التيارين السلافي والغربي، وما تركه ذلك من أثر عميق على التفكير الرّوسي الحديث، ويعرض الكتاب آراء كبار المفكرين الروس، من تشاداييف إلى سولوفييف، مروراً بـخومياكوف، بيلينسكي، وغيرتسن، إضافة إلى الديسمبريين وحركات الاحتجاج المبكرة.
دوستويفسكي: الفيلسوف الميتافيزيقي يرى برديايف في دوستويفسكي ديالكتيكياً لامعاً وميتافيزيقياً إنسانياً من الطرازالرفيع، انشغل بقضايا الإنسان الجوهرية: الحرية، الحبّ، الثورة، والإيمان، ويُعدّ هذا الكتاب ثمرة سلسلة من المحاضرات ألقاها برديايف في ندوة خُصصت للأديب الروسي الكبير بين عامي 1920 و1921، حيث شكّلت هذه المحاضرات نواة لتأملاته اللاحقة حول “رؤية دوستويفسكي للعالم .
لا يغفل الكتاب الجوانب السياسية والاجتماعية، حيث يناقش مسألة السلطة في الوعي الروسي، والانجذاب الفكري نحو الأنارخية (اللاسلطوية)، وارتباط ذلك بموقف الإنتليجنسيا الروسيّة من الدولة والدين، كما يسلط الضوء على تطورالفكر الاشتراكي الروسي، من بيلينسكي إلى تكاتشيف، الذي يعده برديايف سلفاً فكرياً للينين.
يفرد المؤلف حيزاً خاصاً للمسألة الدينية، فيتوقف مطولاً عند فلسفة فلاديمير سولوفييف وتعاليمه حول “صوفيا” “الحكمة الإلهيّة”، ويفكك مفاهيمه عن المحبّة الكونيّة للفكر الرّوسي، كسمات تميز الوعي الروسي عن نظيره الغربي.
على الرغم من أن الكتاب كُتب عام 1921، إلا أن أهميّته لم تخفت مع مرور الزمن، بل على العكس، يكتسب راهنية خاصة في ضوء التحوّلات السياسيّة والثقافيّة المتواصلة في روسيا والعالم، إذ يقدم برديايف عبر دوستويفسكي مرآة للذات الروسيّة في قلقها، نبوتها، ويطرح أسئلة لا تزال مطروحة حتى اليوم: من نحن؟ وإلى أين نسير؟!. إنه كتاب لا يُقرأ فقط لفهم دوستويفسكي، بل لفهم روح أمّة بأكملها.