الثورة – هنادة سمير:
في الوقت الذي يشهد فيه العالم تسارعاً غير مسبوق في تبني وتطوير تقنيات التكنولوجيا تواجه سوريا تحديات عميقة في هذا المجال، نتيجة لتراكم عوامل اقتصادية وتقنية واجتماعية فرضت قيوداً ملموسة على قدرة المواطنين والمؤسسات على الوصول إلى الأدوات الرقمية والاستفادة منها.
نحاول من خلال هذا الملف تسليط الضوء على أسباب هذه المحدودية وآثارها على مختلف القطاعات الحيوية، واستكشاف سبل تمكين المجتمع السوري من توظيف التقنيات لتحقيق التعافي والنهوض.
الواقع الرقمي بعد الحرب
منذ عام 2011، تعرضت البنية التحتية لقطاع الاتصالات والتكنولوجيا لأضرار جسيمة نتيجة الحرب في سوريا، وساهمت العقوبات الاقتصادية، وتراجع الاستثمار المحلي، والانقطاعات المتكررة للتيار الكهربائي، في تعميق الفجوة الرقمية، لاسيما في المناطق الريفية والمهمشة.
تشير أحدث تقارير نشرتها شركة “Ookla” المتخصصة في تحليل سرعات الإنترنت أن سوريا وكوبا جاءتا في ذيل قائمة الدول من حيث سرعة الإنترنت الأرضي، حيث لم يتجاوز متوسط سرعة التحميل في كلا البلدين 3 ميغابت في الثانية مقارنة بمتوسط بلغ 97.61 ميغابت في الثانية عالمياً، أما على مستوى سرعة الإنترنت عبر شبكات الهاتف المحمول، فقد احتلت سوريا المركز 102 عالمياً من أصل 104 دول، بمتوسط سرعة تحميل بلغ 16.84 ميغابت في الثانية، في حين بلغ متوسط السرعة عالمياً 91.24 ميغابت في الثانية،
وتقدر نسبة انتشار الانترنت في سورية بـ 35% بحسب الاتحاد الدولي للاتصالات، فيما يبلغ متوسط تكلفة تحميل 1 غيغابايت من البيانات المتنقلة 5 دولارات وتشير تقديرات محلية إلى أن 40% فقط من الأسر السورية تمتلك أجهزة حاسوب بحسب مسح أجري عام 2023.
ويتراوح معدل انقطاع الكهرباء في معظم المحافظات السورية خلال السنوات الماضية بين 8 إلى 12 ساعة يومياً مما ينعكس على خدمات الحكومية الإلكترونية، وأبراج الاتصالات، وحتى إمكانية شحن الأجهزة المحمولة.
يعلق مدير الشركة السورية للاتصالات المهندس غسان عكاش مبيناً أن الفجوة في القدرة على الوصول إلى التقنيات والاستفادة منها بفعالية يعود إلى مجموعة معقدة من التحديات السياسية والاقتصادية والتقنية حيث أسهمت الحرب الطويلة والعقوبات الاقتصادية في إضعاف البنية التحتية التكنولوجية، وأثّرت على قدرة البلاد على مواكبة التطورات الرقمية العالمية، فتم حظر استيراد التكنولوجيا الحديثة، مما يعوق عمليات التحديث التقني، ويحد من وصول الأفراد والشركات إلى أدوات رقمية متطورة. والعقوبات المالية عرقلت استخدام الخدمات الإلكترونية العالمية.
وأضاف: أدى ضعف المناهج التعليمية الخاصة بالتقنية ونقص الكوادر المدربة إلى صعوبة وصول المستخدمين إلى أدوات الذكاء الاصطناعي والمواقع التعليمية والتقنية المحجوبة، وأدى نقص المحتوى العربي وغياب البيانات المحلية إلى إضعاف فرص التطوير، وهناك معوقات مؤسسية وتنظيمية وغياب السياسات الرقمية والاستراتيجيات الواضحة خلال العهد السابق كل ذلك عرقل تطوير قطاع التكنولوجيا.
من أرض الواقع
يقول المواطن عماد شقير: “اضطررت عدة مرات إلى مراجعة السجل المدني لاستخراج وثيقة قيد مدني بسبب تكرار تعطل الشبكة الناتج عن انقطاع التيار الكهربائي وبالتالي الوقوف لساعات طويلة بات روتيناً متعباً”.
ويضيف الطالب أحمد سالم الذي يتابع دراسته عن بعد: “أدفع نصف راتبي من عملي الحر على مقهى انترنت لأن الكهرباء تنقطع لساعات، وسرعة الانترنت لا تكفي لإرسال ملف pdf.
أما أبو محمد، صاحب مقهى للانترنت فيؤكد أن الزبائن تناقصوا بنسبة كبيرة بسبب ارتفاع الأسعار، فالاشتراك الشهري بالانترنت يقارب ثمن أجار المحل.
ريادة الأعمال مقيدة رقمياً
يرتبط قطاع ريادة الأعمال بشكل وثيق بالتكنولوجيا، إذ تتيح الأخيرة تطوير منتجات وخدمات فعالة، وتوسيع الأسواق، وتعزيز التنافسية. لكن في سوريا، تعاني الشركات الناشئة من تحديات متعددة.
يوضح عضو اتحاد رواد الأعمال السوريين حسن قويدر: “تواجه الشركات الناشئة صعوبات كبيرة في إطلاق تطبيقات إلكترونية بسبب الضرائب المرتفعة، وتعقيد شروط الترخيص، وقيود الدفع الإلكتروني، وضعف البنية التحتية التقنية”.
وعن تجربته الشخصية في إطلاق تطبيق “وريد” لحجز المواعيد الطبية الكترونياً رغم التحديات يقول: واجهنا صعوبات لتأمين سرعة انترنت عالية فلم يكن مسموحاً بأكثر من 4 ميغا فقط للإنترنت أما الفايبر فكانت تكلفته مرتفعة جداً وأدى انقطاع الكهرباء والإنترنت مراراً إلى توقفنا عن العمل مما اضطرنا الى الاستعانة بالطاقة الشمسية وشكل عدم قدرة الزبائن على استخدام التطبيق لنفس الأسباب تحدياً آخر دفعنا لإعادة قولبة التطبيق بحيث يمكنهم من استخدام رسائل الجوال.
رؤية اقتصادية
الخبير الاقتصادي وائل الزين قال إن الأضرار الكبيرة التي لحقت بالبنية التحتية للقطاع نتيجة سنوات الحرب، إضافة إلى قدم التجهيزات أساساً التي لا تواكب التطور الحديث كل ذلك يجعل من الضروري استبدالها من أجل إعادة بناء البنية التحتية المدمرة وليس ترميمها فقط.
وبين أن الخدمات التي يقدمها القطاع حالياً هي بالحد الأدنى وهناك تراجع من الجيل الثالث إلى الجيل الثاني من الاتصالات وهناك أماكن لا تصلها التغطية سواء الهاتف الأرضي أو المحمول، لافتاً إلى أن قطاع الاتصالات يحظى بأهمية مضافة كونه يعد رافعة لكافة القطاعات الأخرى وبالتالي أساساً للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وأضاف أن البنى التحتية لها شقان، أحدهما مادي فيزيائي يتعلق بالكابلات والمحطات وبوابات العبور الدولية مع دول الجوار والثاني فني يتعلق بالموارد البشرية وكلاهما هام جداً لإحداث التحول الرقمي الذي يعود بفوائد كبيرة على كل المشتركين من حيث توفير الوقت والتكاليف والقضاء على الروتين وبالتالي إعادة إعمار لكل القطاعات.
ولفت إلى أن مؤتمر الذكاء الاصطناعي، الاتفاقيات التي تم توقيعها مع دول الجوار تعمل على وضع استراتيجيات تلبي المتطلبات المستقبلية.
كما أن إطلاق شبكة الجيل الخامس يبشر بنقلة هامة تحرك عصب الحياة في القطاعات الأخرى كقطاع النقل والطب وغيرها.
وأوضح الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للنهوض بقطاع رواد الأعمال ودوره في دفع عجلة الاقتصاد والتنمية من خلال العائد المادي الذي يوفره وتأمين فرص العمل للخريجين، فعقد الملتقيات الاستثمارية يسمح بعمل شراكات مع الشركات المماثلة في دول الجوار وتقديم منتجات رقمية وتطبيقات في مناحي عديدة كالصحة والتعليم مما يسمح بمضاعفة الاستثمار إلى 30 ضعف المبلغ المبدئي الموضوع في المشروع وبالتالي يسهم في تنمية الاقتصاد.
وأضاف أن كل تحول الرقمي ودفع الكتروني لن يتم دون توفير بيئة رقمية آمنة مطابقة للمعايير المحددة للشركات والتطبيقات والدفع الالكتروني والعمل كذلك على تجهيز الكوادر وتوعية المواطنين ضد الهجمات الاصطيادية المتوقع انتعاشها في الفترة القادمة.
إجراءات للمعالجة
هنا يشير مدير مؤسسة الاتصالات المهندس عكاش إلى المشاريع التي تقوم بها الوزارة لمعالجة مشاكل القطاع المتراكمة حيث بدأت بإطلاق خدمات جديدة عبر بوابة الحكومة الإلكترونية في إطار مشاريع التحول الرقمي الحكومية، كما يتم العمل على مشاريع لربط المؤسسات الحكومية إلكترونياً.
وتم إطلاق منظمات غير حكومية ومبادرات شبابية ومشاريع تدريبية في الذكاء الاصطناعي والبرمجة والتحول الرقمي. يضاف إليها ما تم الإعلان عنه من مشاريع عملاقة هدفها تطوير البنية التحتية لخدمات الإنترنت والوصل الشبكي عالي السرعة الذي يربط كامل الأراضي السورية بالتعاون مع شركات خاصة يتم تطوير خدمة الفايبر مع خطط مستقبلية لتحسين الإنترنت والكهرباء، وتعزيز التعليم التقني وإدخال برامج تدريبية في الجامعات والمعاهد لتطوير مهارات الشباب في المجال الرقمي.
التحول الرقمي في سوريا لا يزال متعثراً لكن تذليل العقبات التقنية والبشرية قد يحوّله إلى رافعة حقيقية للتنمية إذا ما توفرت الإرادة والدعم والاستثمار في البنية التحتية والكفاءات.