الثورة – مها دياب:
ليست مجرد أزمة مياه، بل نظام يومي قائم على الترقب والاحتمال، في هذه المدينة الواقعة على حدود العاصمة، بات الوصول إلى المياه يشبه مطاردة وهم. جدول لا يطبق، وضخ يأتي متأخراً أو لا يأتي، وصهريج يساوم على الحاجة.
يعتمد الناس هناك على الأمل أكثر من اعتمادهم على الحنفية، يضبطون مواقيت نومهم على صوت المضخة، ويحسبون مصروفهم باللترات لا بالليرات.
تحت السطح، لا تختنق الأنابيب فحسب، بل تختنق الثقة أيضا، ثقة بمؤسسات لا تبرر، بجداول لا تلتزم، وبخدمات لا تصل إلا بشق التوسلات. ومع أن الماء أبسط حقوق العيش، غدا في صحنايا رفاهية لا ينالها إلا من امتلك وسيلة أو حظاً في السكن بحي موصول.
خلل في التوزبع
ومع الانخفاض الحاد في الموارد المائية وتراجع منسوب الأنهار والآبار، تحولت أزمة المياه في صحنايا إلى كارثة محلية. فبعض الأحياء لم تصلها المياه منذ أكثر من شهرين، فيما تنعم أحياء أخرى بضخ شبه يومي، ما أثار تساؤلات حقيقية حول العدالة في التوزيع.
في حي الكنيسة، تقول المهندسة ميسون حداد: “لم نر المياه منذ أكثر من شهر. لا جدول ولا التزام، فقط وعود مؤجلة. مصروف المياه يحتاج لميزانية كبيرة، ولم نعد نحتمل.”
أما في حي التنظيم، تشرح روعة الشامي: “كل تعبئة صهريج تكلفنا 60–70 ألف ليرة، حتى لو وصلت المياه فالضخ ضعيف جدا، لا يكفي لتعبئة الخزانات.”
وتضيف سلافة خضر من حي الأشرفية: “نسينا “ريحة مي الحنفية”، نحتاج قرابة مليون ليرة شهريا للشرب والغسيل. الوضع فوق قدرة أي أسرة.”
والصحفية هناء مهنا في مدخل صحنايا تقول: “المفروض أن تصلنا المياه حسب الجدول مرتين أسبوعياً صباحاً ومساء، ولكن للأسف تأتي ساعتين ليلا بضخ منخفض جدا وأحيانا مرة في الأسبوع وتصل المياه الحنفية بمشقة، خيط رفيع ينزل منها، بينما يُضخ الماء تقريباً يومياً وطوال النهار”.
بين الجداول النظرية والواقع المتقلب
رغم إعلان مؤسسة المياه عن برامج ضخ منظمة ومواعيد دقيقة، إلا أن التطبيق الميداني يعاني من تفاوت ملحوظ. التحديات الفنية وانقطاعات الكهرباء ونقص الكوادر ساهمت في ارتباك واضح، حيث تنعم بعض الأحياء بنصيب من المياه، بينما تتكرر فترات الانقطاع الطويل في أحياء أخرى، والأهالي يطالبون بالمزيد من الشفافية والتواصل المنتظم حول جداول التوزيع وأسباب التغييرات المفاجئة مع الحلول.
الكهرباء.. ذريعة لا تقنع الجميع
وبحسب الأهالي كثيرا ما يعزى ضعف الضخ إلى تقنين الكهرباء، لكن هذا التبرير بات أقل إقناعا.، خاصة مع توفر التيار عبر بدائل أمبيرات، ورغم ذلك لا تصل المياه. ويؤكد البعض أن “الضخ العشوائي” في أوقات متباعدة أو دون إعلان يفاقم حالة الإرباك ويزيد التكلفة المعيشية.
توسع عمراني بلا بنية داعمة
وهنا ننوه إلى مشكلة كبيرة تواجه المدينة، وهي التوسع العمراني الكبير غير المدروس، دون أن يقابله تعزيز للبنى التحتية والقدرة على استيعاب هذا التوسع بالخدمات الأساسية من كهرباء وماء وطرقات. بالتالي، هذا التوسع خلق ضغطاً وعبئاً إضافياً على شبكة المياه الضعيفة أصلاً، خاصة في ظل غياب الدعم المالي والفني المناسب، ما تسبب في تعميق أزمة التغطية وتفاقم التفاوت بين المناطق.
مشروع خزان المصطبة.. فرصة مؤجلة
تساءل الكثيرون عن مشروع “خزان المصطبة” الذي بدأ العمل فيه منذ سنوات لتقليل حدة الأزمة، إذ يفترض أن يعمل كمحطة تجميع وتوزيع للمياه من العقدة الثامنة ليتم تغذية صحنايا ومناطق أخرى قريبة، وكان الإعلان سابقا أنه سيدخل في العمل في الصيف الحالي، وإلى الآن لايزال متوقفاً دون معرفة الأسباب من قبلهم.
وحدة المياه توضح واقع الضخ والتحديات التقنية
رداً على شكاوى السكان المتزايدة حول تفاوت ضخ المياه بين أحياء صحنايا، أوضح السيد منيب ضاهر، مدير وحدة المياه في المدينة، في تصريح خاص لصحيفة “الثورة”، أن عملية الضخ تخضع لظروف تقنية خارجة عن إرادة الوحدة بشكل مباشر، إذ تعتمد صحنايا بشكل رئيسي على محطتين ضخ مركزيتين قادمتين من مدينة دمشق، تقعان بدورهما تحت تأثير التقنين الكهربائي.
وأشار ضاهر إلى أن المحطتين لم تمنحا حتى الآن إعفاء من التقنين، رغم وجود مطالبات رسمية بهذا الشأن، الأمر الذي يؤثر بشكل كبير على انتظام الضخ، ويمنع تشغيل المضخات في أوقات النهار، ما يجعل فترة الضخ تنحصر غالبا بين الثانية والرابعة فجرا وغالبا تصل بضغط خفيف.
وأوضح أن أحد التحديات الإضافية يكمن في التقسيم الجغرافي الواسع للقطاعات في صحنايا، حيث لا يمكن فصل الشبكات بسهولة، لأن ذلك سيؤدي بالضرورة إلى تقليص عدد مرات الضخ لكل قطاع إلى مرة واحدة فقط كل أسبوعين، ما يزيد من سوء الوضع بدلاً من معالجته.
ولفت إلى أن تفاوت الخدمة بين الأحياء يعود إلى اختلاف مصادر التغذية، فبعض المناطق تمتلك آباراً محلية قيد التشغيل، بالتالي إمكانية الضخ أكبر وأفضل بالوصول للمنازل، بينما تعتمد أخرى بشكل كامل على الضخ من دمشق.
ورداً على التساؤلات حول “خزان المصطبة” يقول، ضاهر: “رغم الانتهاء من الأعمال الإنشائية، لا يزال المشروع خارج الخدمة بانتظار تأمين قطعة فنية بسيطة (سكورة) ضرورية لتوصيله بالشبكة، في ظل تأخر التمويل وتعقيدات التوريد. الخزان كان من المفترض أن يساهم في حل مشكلة المياه في صحنايا، لكن غياب الإمكانيات الفنية والإدارية أخر تشغيله إلى أجل غير معلوم، مما أبقى آمال الأهالي معلقة على صمام مفقود”.
كما أشار في معرض حديثه إلى مشكلة سرقة سيارة المياه التابعة للوحدة، ما حد من القدرة على تزويد المدارس بالمياه، والتي ستشكل مشكلة فيما بعد عند عودة المدارس.
آبار خارج الخدمة
ومن جانبه، أكد السيد رضوان العربي، مسؤول شبكة المياه في صحنايا، أن 75 بالمئة من آبار المدينة خرجت عن الخدمة بفعل سرقة الكابلات ومحولات الكهرباء، وأن المسؤولين في الوحدة يضطرون أحيانا لتحمل التكاليف شخصياً لإعادة تشغيل بعض الآبار ضمن الإمكانات المتاحة.
وأوضح أن العقود مع المتعهدين تم إيقافها بعد “التحرير” من قبل الإدارة الجديدة، وتم تشكيل لجان لإعادة دراستها، ما أثر بدوره على المشاريع التابعة للوحدة.
الطاقة البديلة الحل
أوضح مدير وحدة المياه في صحنايا أن التحول إلى الطاقة الشمسية بات ضرورة ملحة لضمان استمرارية ضخ المياه في ظل تقنين الكهرباء، وأكد أن كلفة تشغيل المحولات الكهربائية تتجاوز 300 مليون ليرة لساعات محدودة أسبوعيا، بينما يمكن لمنظومة طاقة شمسية بكلفة أقل (نحو 150 مليون ليرة) أن تؤمن ضخاً يوميا منتظماً. ودعا إلى دعم المجتمع المحلي لتأمين التمويل وتكرار تجارب ناجحة كتجربة مدينة يبرود، التي تمكنت من تحقيق استقرار مائي عبر الطاقة البديلة.
نحو إصلاح واقعي يبدأ بالاعتراف
تبدو أزمة المياه في صحنايا أبعد من كونها مجرد خلل تقني عابر، بل تشكل مؤشرا عميقا على محدودية فعالية الإدارة في مؤسسة المياه أمام تحديات بنيوية مزمنة. فالمشكلة لا تحل بإعادة تأهيل بئر هنا أو تشغيل مشروع متعثر هناك، بل تحتاج إلى منهجية شاملة تعيد ترتيب الأولويات وتعزز الشفافية بين المؤسسات والمواطنين.
ويبرز في هذا السياق ضرورة تحسين آليات التواصل حول جداول الضخ والانقطاعات، وتوفير دعم عاجل لصيانة الشبكات المتهالكة وتأمين القطع الحيوية اللازمة، إلى جانب الإسراع في تنفيذ مشاريع الطاقة البديلة كوسيلة أكثر استدامة وأقل كلفة على المدى البعيد.
و تمكين الوحدات المحلية بالأدوات الأساسية للعمل، كالورشات والمركبات الفنية، وفتح المجال أمام المبادرات المجتمعية التشاركية، سيمنح الإدارة مرونة أكبر ويساهم في تقوية الجبهة الخدمية من الداخل، بما يضمن تلبية حاجات الناس وتحسين الثقة بالجهات المعنية.
وفي الختام إن الخروج من دائرة العطش لا يحتاج معجزات، بل خطوات صغيرة تبنى على شراكة ووضوح فمتى ما أصبح الحق في المياه أولوية لا هامشاً، أمكننا تحويل الأزمات إلى فرص، والمحن إلى مسارات إصلاح مستدام.