الثورة – ثورة زينية:
لعل إيجاد موقف نظامي للسيارة من دون أن يضطر صاحبها إلى ركنها على رصيف أو في منطقة يخالف الوقوف فيها، بات من الصعوبات الحقيقية التي يعانيها المواطن في العاصمة دمشق، في ظل النقص الكبير للمرائب التي لا يتجاوز الطابقي منها عدد أصابع اليد الواحدة، في حين تشكل المرائب المكشوفة المخالفة في معظمها بؤراً مزعجة للمحيط والتي لا تلبي أدنى متطلبات وشروط السلامة والأمان.
تعاني مدينة دمشق من ازدحام شديد بأرتال السيارات المتوقفة نتيجة النقص الحاد في مواقف ومرائب السيارات، وبقيت البنى التحتية المرورية كما هي على مدى عقود في حين كان يزداد عدد السيارات والمركبات ويتضاعف في كل عقد زمني عدد السكان.
مشكلة قديمة ومزمنة
قضية مرائب السيارات في العاصمة تمثل مشكلة قديمة ومزمنة سببها الرئيسي المحافظة نفسها التي لم تُعر هذا الموضوع الأهمية الكافية خلال العقود الماضية، لا بمشاريعها ولا بمخططاتها التنظيمية ولا ببعض الأماكن التي يمكن الاستفادة منها لهذه الغاية.
لكن اليوم وبعد التحرر من سلطة النظام المخلوع تزايدت أعداد السيارات بشكل غير مسبوق وباتت المواقف شبه معدومة ومساحات التوقف نادرة، الأمر الذي يحتم ضرورة إيجاد حلول حقيقية.
استثمار بشروط “مطاطة”
في عام 2008 وضعت محافظة دمشق خارطة متكاملة لإنجاز مرائب تحت الحدائق وتحت الساحات العامة في دمشق، وتم حينها توقيع مذكرة تفاهم مع شركة ماليزية أجرت دراسة كاملة للمواقع المختارة، ووضعت التصاميم الأولية للمرائب الأرضية وللحدائق التي سيعاد تأهيلها لتصبح حدائق نموذجية وفق المعايير العالمية، لكن المشروع توقف قبل أن يبدأ حتى عام 2024 إلى حين عهدت محافظة دمشق لشركة خاصة عدّة حدائق لإقامة مرائب طابقية تحتها ووقعت مذكرة تفاهم معها لبناء 11 مرآباً تحت الحدائق والساحات العامة مثل حدائق الصوفانية والسبكي وعرنوس وطلائع البعث في المزة والبرامكة وغيرها، فالمحافظة لا تعتبر الحدائق العامة وما تبقى من منتزهات محدودة داخل العاصمة أنها أملاك عامة بعهدتها بل ملكيات خاصة بها يحق لها بذريعة زيادة العائدات أن تضعها بالاستثمار بغض النظر عمّا سيصيب هذه الحدائق والمتنزهات من تشوّه أو تقليص بالمساحة المخصصة فيها للمواطنين، والتي تُعتبر المتنفس الوحيد لأهالي وسكان دمشق.
مذكرات التفاهم هذه كانت تفصل على مقاس المستثمرين المحظيين لدى المعنيين في محافظة دمشق آنذاك لذا جعلوا شروطها “مطاطة” بحجة تشجيع المستثمرين.
تكرار الفشل
ووصفت تلك الخطوة الجديدة آنذاك بـ”تكرار الفشل” في إعادة إحياء إنشاء المرائب الطابقية أسفل الحدائق ذات المساحات الكبيرة في دمشق والتي كان من المفترض إنشاؤها سابقاً، كونها تتيح للمستثمر تحويل الحديقة إلى كتل بيتونية من أكشاك ومطاعم وفعاليات تجارية واستثمارية وترفيهية أخرى، في حين تبقى بعض الشجيرات في الحديقة لكن المشروع توقف لاحقاً.
وللأسف ما حصل لحديقة السبكي العريقة التي أنشئت منذ ما يزيد عن 70 عاماً بمستوى هندسي ومعماري لائق، يشهد على كمية التخريب التي تمت بحق الحدائق، إذ تم تسليمها لمستثمر قام بقطع أشجارها المعمرة التي يصل عمر بعضها إلى أكثر من 100 عام، وتم تدمير سورها وسور بحيرة البط فيها وتحويل ملجئها إلى استثمار تجاري لم يكتمل وتوقف المشروع بعد تخريب بيئة الحديقة.
غياب المرائب الطابقية العامة
خبير تخطيط المدن المهندس عماد هيلم بين لـ”الثورة” أسباب الحاجة المتزايدة للمرائب في العاصمة دمشق ازدياد عدد السيارات الخاصة أن عدد السيارات الخاصة ارتفع بشكل مقابل بنية تحتية لا تتسع إلا لجزء منها، والتحوّل من النقل الجماعي إلى الخاص بسبب تراجع ثقة الناس بوسائل النقل العام (الباصات والتكاسي) مما دفع الكثيرين للاعتماد على سياراته.
يضاف إليها- حسب المهندس هيلم- ضيق الشوارع القديمة في أحياء دمشق القديمة والوسط التجاري (الحمرا، الحجاز، البرامكة، شارع بغداد) بنيت في عقود لم تكن السيارات شائعة فيها، ولا تحتوي على مرائب تحت الأرض، وغياب المرائب الطابقية العامة فلا توجد في دمشق مرائب متعددة الطوابق كافية، والموجود منها (مثل مرآب الحمرا، أو كراج السبع بحرات، ومرآب المواصلات) قليل مقارنة بالحاجة المتزايدة للمرائب في دمشق.
ويشير إلى أن مناطق عديدة في دمشق تعاني أزمة واضحة في عدد مواقف السيارات منها المزة – الفيلات و86، إذ ترتفع الكثافة السكانية ويتواجد عدد كبير من المؤسسات الرسمية من دون مواقف مخصصة، وفي البرامكة التي تزدحم بالكليات الجامعية والمؤسسات الرسمية ومراكز انطلاق الباصات والميكرو باصات الى الريف المحيط، ومناطق الحلبوني والمرجة والشعلان التي تعج بالمحال التجارية والأسواق المكتظة، إضافة لمناطق باب توما وباب شرقي حيث الشوارع ضيقة والطلب مرتفع على الزيارات السياحية والدينية.
تحديات التنفيذ
وعزا المهندس هيلم تحديات تنفيذ مرائب جديدة في العاصمة إلى غياب الأراضي الفارغة داخل المدينة وارتفاع كلفة إنشاء مراتب تحت أرضية مرتفعة جدًا تتعدى مليارات الليرات وغياب المستثمرين بسبب تذبذب الأسعار وانعدام الجدوى الربحية، إضافة لضعف القدرة التنظيمية على منع الركن العشوائي.
واقترح إنشاء مرائب طابقية على أطراف دمشق وربطها بـ”مكرو باص” مجاني، واستثمار أقبية الأبنية الجديدة كمواقف إلزامية، وهو ما يُطلب قانونا لكنه لا يُطبق بصرامة وفرض ضرائب على من يمتلك أكثر من سيارة من دون موقف نظامي وتحويل بعض الحدائق غير المستخدمة أو العقارات الحكومية لمرائب عامة.
إن الخطط والسياسات الاستراتيجية لبنية مرورية مستدامة كانت شبه غائبة تماماً عن خطط محافظة دمشق وحكومة النظام البائد آنذاك، في حين اقتصرت معظم الحلول على معالجات إسعافية أو مشاريع استهدفت نقاط بعينها حسب الحاجة من دون الاعتماد على رؤية بانوراما لمجمل المشهد المروري في العاصمة.
واليوم فإن تجاوز التعقيدات والخروج من دوامة الروتين في إدارة المشاريع الخدمية بات ضرورياً أكثر من أي وقت مضى فالمنعكسات السلبية الناجمة عن التأخير في تنفيذ مثل هذه المشاريع الضرورية تزيد من حدة المعاناة اليومية للمواطن في العاصمة التي أرهق مرافقها الخدمية سوء التخطيط وبطء التنفيذ وعدم وجود استراتيجيات واضحة وطويلة الأمد والاعتماد على الحلول الإسعافية السريعة خلال حمو النظام المخلوع و التي زاد البعض منها بعض المشكلات تفاقماً.
عاصمتنا العريقة دمشق تستحق من الجميع بذل الجهود مضاعفة، وإقصاء لشماعة التريث التي باتت مشجباً مثقلاً بالتسويف والتبرير.