الثورة – هنادة سمير:
لم يعد الأمن السيبراني مجرد مسألة تقنية تخص المختصين في ظل التحولات الرقمية المتسارعة التي يشهدها العالم، بل بات ضرورة حياتية تمس كل فرد يستخدم الإنترنت، من الهواتف الذكية إلى الحسابات البنكية، ومن التعليم إلى العمل، تتقاطع حياتنا اليومية مع الفضاء الرقمي بشكل يجعل من الوعي بالأمن السيبراني ثقافة يجب أن تتجذر في المجتمع، لا مجرد مجموعة تعليمات.
مفهوم يتجاوز التقنية
يعرف الأمن السيبراني أنه مجموعة من الإجراءات والتقنيات التي تهدف إلى حماية الأنظمة والشبكات والبرمجيات والبيانات من الهجمات أو الوصول غير المصرح به أو التلاعب أو التخريب، لكن المفهوم اليوم لم يعد يقتصر على البنية التحتية الرقمية للدولة أو الشركات، بل امتد إلى حماية الأفراد أنفسهم.
وتشير دراسة صادرة عن الاتحاد الدولي للاتصالات إلى أن 95 بالمئة من الهجمات السيبرانية سببها “خطأ بشري”، ما يعني أن الجانب الثقافي والتوعوي هو المفتاح الرئيسي لتعزيز الأمن السيبراني.
لماذا نحتاج إلى ثقافة أمن سيبراني؟
في سوريا، بدأ التحول الرقمي يأخذ زخمه في المؤسسات الحكومية بعد سنوات الحرب، يحتل الأمن السيبراني مكانه كأولوية لا تقل أهمية عن إعادة الإعمار المادي.
ومع إطلاق بوابات إلكترونية للخدمات الحكومية، وتزايد الاعتماد على الإنترنت في التعليم والعمل، تصبح البيانات الشخصية والمعلومات الرسمية عرضة للاختراق ما لم تكن هناك منظومة وعي مجتمعية تحصّنها.
يقول الخبير في أمن المعلومات المهندس أحمد الحسين: إن التحول الرقمي من دون وعي مجتمعي بالأمن السيبراني يشبه بناء مدينة من زجاج، جميلة لكنها هشة وعرضة للانهيار بأي لحظة.
ويبين في حديثه لـ”الثورة” أن هناك أنواعاً متعددة من التهديدات السيبرانية تشهدها سوريا، كسائر دول العالم أبرزها: الاحتيال الإلكتروني من خلال الرسائل الوهمية، اختراق الحسابات الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي، برمجيات الفدية التي تقفل البيانات وتطلب دفع مبالغ مالية، استهداف قواعد البيانات الحكومية والمؤسسات الرسمية، ويُضاف إلى ذلك أن جزءاً كبيراً من المواطنين يستخدم شبكات غير آمنة أو برامج مقرصنة، ما يزيد من خطورة الهجمات.
من التوعية إلى الثقافة
يؤكد أنه غالباً ما يتم اختزال التوعية بالأمن السيبراني في منشورات على وسائل التواصل أو محاضرات موسمية، لكنها لا تُحدث تغييراً فعلياً في سلوك الأفراد، وما نحتاجه هو تحول عميق يجعل من السلوك الآمن رقمياً جزءاً من العادات اليومية.
ويقترح الخبير في الأمن السيبراني استراتيجية من ثلاث مراحل لخلق ثقافة سيبرانية تبدأ من التعليم المبكر بإدخال مفاهيم السلامة الرقمية إلى المناهج المدرسية مروراً بالتمكين المجتمعي من خلال تدريب موظفي الدولة ومستخدمي الإنترنت على مبادئ الأمن الرقمي، وانتهاء بالحوافز والتشجيع عن طريق مكافأة السلوكيات الرقمية الآمنة في بيئات العمل والتعليم.
ويشير إلى أن تجارب دول مثل إستونيا وسنغافورة تثبت أن الثقافة السيبرانية لا تُبنى فقط عبر القوانين، بل عبر إشراك الناس في مسؤولية حماية أنفسهم، ففي إستونيا، يتم تعليم الأطفال استخدام الهويات الرقمية بأمان منذ المرحلة الابتدائية، بينما في سنغافورة، تفرض الدولة على الشركات تنفيذ تدريبات دورية للعاملين حول الأمن السيبراني.
ما الذي يمكن فعله؟
ويرى أنه في السياق السوري، يمكن اتخاذ عدة خطوات عملية لخلق ثقافة أمن رقمي: مثل إطلاق حملات توعوية تستهدف مستخدمي الإنترنت بلغات مبسطة، إنتاج محتوى مرئي (فيديوهات قصيرة، رسوم توضيحية) يشرح مخاطر الاستخدام غير الآمن، تدريب المعلمين والطلاب على حماية البيانات الشخصية والبريد الإلكتروني، ودعم المبادرات الشبابية المختصة في مجال التقنية لتقوم بدور تثقيفي تطوعي، وأخيرا إدماج موضوع الأمن الرقمي في برامج الإعلام الوطني والدراما المحلية.
الوعي مسؤولية مشتركة
واعتبر الحسين أن المسؤولية في نشر هذه الثقافة تتشارك فيها عدة أطراف تشمل الدولة من خلال السياسات العامة، وإدخال معايير الأمن الرقمي في التعليم والخدمات وكذلك القطاع الخاص عبر تأمين منصاته، وتدريب موظفيه، وعدم استغلال بيانات المستخدمين يشاركهم المجتمع المدني من خلال مبادرات التوعية والرقابة على الممارسات الضارة ومعهم الإعلام بصفته صوتاً مؤثراً في تشكيل الرأي العام ونشر المعرفة إلى جانب الأفراد أنفسهم عبر التعلّم المستمر، وتحديث أنماط سلوكهم الرقمي.
تؤكد تقارير المنظمات الدولية أن الاستثمار في الأمن السيبراني ليس رفاهية، بل هو ضرورة تنموية، حيث تشير التقديرات إلى أن الهجمات السيبرانية تكلف الاقتصاد العالمي أكثر من 6 تريليونات دولار سنوياً، وفي مجتمعنا السوري الذي خرج من حرب طويلة، تتطلب إعادة الإعمار بناء الإنسان والمؤسسات على حد سواء.
وإن لم يكن الأمن السيبراني أولوية اليوم، فقد يأتي الوقت الذي نجبر فيه على دفع ثمن غيابه من خصوصيتنا، وأمننا، وإن تحويل الأمن السيبراني إلى ثقافة هو رهان على المستقبل، واستثمار في وعي الإنسان السوري، الذي يستحق أن يعيش في وطن رقمي آمن.