إرثٌ حضاري في مهبّ التحديّات.. الحرفيّون لـ”الثورة”: نقلنا من التكية قطع الصلة بين الحرفة ومكانها وفقدنا زبائننا
الثورة – عبير علي:
وسط تعقيدات اقتصادية خانقة وتضييقٍ مستمر، يعيش الحرفي السوري واحدة من أصعب مراحله التاريخية، رغم امتلاكه تراثاً غنياً وإبداعاً متفرداً يتجاوز حدود الجغرافيا ليصل إلى المتاحف العالميّة، حكاية الحرفيين في سوريا، قصّة نضال يومي في وجه التهميش، وصرخة من عمق التراث تطالب الإنصاف.
حين يغيب المكان
يرى أحد حرفيي اللباس العربي التقليدي خالد مصباح السقا في حديثه لـ”الثورة”، أن نقل الحرفيين إلى أطراف مدينة دمشق أثر بشكل مباشر على حركة البيع، إذ لا يعرف السياح ولا حتى سكان دمشق هذه المواقع الجديدة، وقد أُرهق الحرفيون مادياً ومعنوياً بسبب بُعد المسافة وتكاليف النقل، ما أثر على جودة العمل والحافز للاستمرار، وأكد السقا أن التحسن النسبي بعد رفع العقوبات أعاد الأمل بتوفير المواد الأساسية وزيادة الطلب.
رئيس شعبة المهن التراثية في اتحاد غرف السياحة السورية وشيخ كار حرفة الرسم النباتي على الخشب (العجمي)، المهندس عرفات أوطه باشي أشار إلى أن التاجر اليوم يستغل الحرفي إلى أقصى حد، فيأخذ القطعة بسعر لا يغطي حتى تكلفتها، ناسياً أو متناسياً أن إنتاجها استغرق شهوراً من العمل المضني، من دون أن يمنحه حتى مصروفه الأساسي خلال فترة الإنتاج، والنتيجة الحرفي محاصر بالعوز، والتاجر يربح على حسابه.
الهجرة والضياع من دمشق إلى الأطراف، ومن الوطن إلى الخارج عوامل عدة دفعت بالحرفيين إلى الهجرة، سواء إلى أطراف العاصمة أو إلى دول مجاورة، مثل الأردن ولبنان وتركيا، التي وفرت لهم دعماً ومكاناً وبيئة عمل، بل وسعت لنسبة الحرفة إليها.
فلسطين، على سبيل المثال، تسعى لتسجيل حرفة الرسم النباتي على الخشب ضمن منظمة “اليونسكو” كتراث مقدسي، رغم أنها حرفة دمشقية أصيلة، بينما تقف سوريا، صاحبة الإرث، عاجزة عن حمايته دولياً.
والهجرة الداخلية لا تقل وطأة، فقد جرى نقل الحرفيين من “التكية السليمانية” أحد أعرق أسواق المهن اليدوية في الشرق الأوسط إلى أطراف دمشق مثل “حاضنة دمر للفنون الحرفية، المدينة الصناعية”، ما تسبب بقطع الصلة بين الحرفة ومكانها الطبيعي، وأفقدها السياح والمشترين، ورفع التكاليف على الحرفيين، لتصبح المبيعات شبه معدومة، كما حصل مع معظم حرفيي “حاضنة دمر”.
فرصة مهدورة
يقول أوطه باشي: إن أي انفتاح عالمي هو طوق نجاة للحرف السوريّة، لأنها تتفوق عالمياً بالجودة والدقة، وهذا ظاهر في عدد من المتاحف الكبرى حول العالم، مثل متحف اللوفر في فرنسا، متحف دريسدن في ألمانيا، ومتحف هونولولو في الولايات المتحدة، جميعها تعرض “القاعة الدمشقية” التي تمثل الفن السوري الأصيل، وبتفعيل المشاركة في المعارض الدولية، تستعيد هذه الحرف ألقها ويعود لها الاعتبار.
إن رفع العقوبات، بدأ يمنح الحرفيين متنفساً، إذ يتيح تحويل الأموال بحرية ويوفر فرص العمل خارج البلاد، ناهيك عن تنشيط السياحة، والتي تُعد من أبرز عوامل دعم الحرف التراثية، وإن وزارة السياحة- بحسب أوطه باشي- تملك أدوات الترويج والتسويق، ويجب أن تكون الجهة الرائدة في دعم الحرفيين عبر المعارض والأسواق التراثية.
ويشدّد على أن من حق الحرفي أن يُعرَف على مستوى محلي ودولي، كفنان حقيقي، وليس مجرد عامل في الظل، تجربته الشخصية دليل حي، فقد كُرّم في سوريا وخارجها، وكان له بصمة في ترميم متاحف وقصور مثل قصر السلطان قابوس في سلطنة عمان، لكنه يؤكد أن الإعلام المحلي مقصّر، بينما يُعرف السوريون عالمياً أكثر مما يُعرفون في وطنهم.
سرقة موصوفة
ونوه بأن الحرفي السوري يُنتج قطعاً إبداعية تباع بأسعار عالية خارج سوريا، لكن من دون ذكر اسمه أو مصدرها، المنتج السوري يباع وكأنه “يتيم”، بينما الوسيط أو التاجر ينسبه لنفسه أو لبلد آخر.
وضعف التسويق الداخلي، وغياب المعارض الدولية، وعدم إنشاء أسواق مهنية تراثية حقيقية، كلها أسباب عمّقت الظلم الواقع على الحرفي، ولهذا، يطالب أوطه باشي وزارة السياحة بإعادة فتح أسواق تراثية مثل خان أسعد باشا وخان الرز في البزورية، وإنعاش التكيّة السليمانية، لتعود منبراً للحرفي ومكاناً للسائح.
جهود ووعود
مدير المهن السياحية في وزارة السياحة الدكتورة سمر العيسى أوضحت أن الحرف التراثية تمثل مكوناً من التراث الوطني المادي واللامادي، لكن لا توجد جهة واحدة مسؤولة حصرياً عن وضع خطط مستقبلية لها، بسبب تشعّب الاختصاصات بين وزارتي السياحة والثقافة.
وأكدت أن المرسوم التأسيسي لوزارة السياحة يمنحها صلاحيّة الإشراف على الأسواق التراثية، لكنها بحاجة إلى تنسيق وتخطيط مشترك مع جهات عدة لتطوير هذا الملف.
وتابعت العيسى: إن الحصار الاقتصادي كان من أكبر الأسباب التي دفعت الحرفيين إلى مغادرة البلاد أو تغيير مواقعهم، ما أفقد الحرف بعدها التاريخي والجغرافي، وشجع على نسبتها لبلدان أخرى، كما أن الحرفيّ، ونتيجة لغياب الدعم، يعمل في ظروف قاسية، ما يجعله يقبل بأقل العوائد، ويضطر لبيع إنتاجه عبر وسطاء يستغلونه.
وإن الانفتاح العالمي الحالي فرصة ذهبية لا يجب تفويتها، فالسوق الدولية متعطشة للحرف السورية المعروفة بجودتها وتميزها، مثل البروكار والأغباني الدمشقي، لكن على الدولة أن تهيئ الأرضية لهذا الانفتاح عبر تقديم القروض الميسرة، وتأمين المواد، وتسهيل التسويق والمشاركة في المعارض، وتدريب جيل جديد من الحرفيين.
الحرفي السوري ليس مجرد صانع، بل حافظ لذاكرة شعب، وراوٍ لتراث أمة، حمايته ليست ترفاً، بل واجب وطني وثقافي وإنساني، وبين استغلال الداخل واستلاب الخارج، يبقى السؤال معلقاً وبرسم المعنيين، متى نردّ لهذا الحرفي الجميل.. ومتى نمنحه مكانته التي يستحقها؟