بين حرارة الجو ولهيب الأسعار.. معركة المواطن المعيشية تتأزم هل السوق قادرة على الاستغناء عن الاستيراد؟
الثورة – تحقيق لينا شلهوب:
لم يعد ارتفاع الأسعار حدثاً عابراً في حياة السوريين، بل تحوّل إلى جزءٍ يومي من تفاصيلهم، يتنقل بينهم كما تتنقّل النيران في هشيمٍ يابس.
ففي بلدٍ يكابد فيه المواطن وراء لقمة العيش، لم تعد الأزمات مجرد عوارض مؤقتة، بل تحوّلت إلى حلقات متصلة لا تنتهي، وما إن يلتقط المواطن أنفاسه أمام موجة غلاء في سلعة أساسية، حتى يُفاجأ بموجة جديدة في سلعة أخرى، ليجد نفسه في سباقٍ لا ينتهي بين الدخل المحدود والأسعار التي تحلّق بلا سقف.
الصدمة الأخيرة تمثّلت في الارتفاع المفاجئ لأسعار بيض المائدة والفروج، بنسبة تجاوزت 50 بالمئة خلال أيام قليلة، تزامناً مع موجة حرّ خانقة، ونقص في المواد العلفية، وغياب واضح للرقابة.
أزمات متقاطعة
ومع أنّ هذه الأزمة لا تقف عند حدود الدواجن، فإنها تتقاطع مع أزمة أخرى ضربت أسواق الخضار والفواكه والمواد الأساسية، إذ ارتفعت الأسعار في بعض المحافظات إلى مستويات غير مسبوقة، محمَّلة بأسباب معقّدة تبدأ من الظروف المناخية ولا تنتهي عند قرارات الاستيراد والتصدير.
انطلاقاً من ذلك، نسعى لتسليط الضوء على خلفيات الأزمة، واستعراض أبعادها الاقتصادية والاجتماعية، مع نقل آراء الخبراء والمواطنين والمربين، محاولين الإجابة عن السؤال الأبرز: هل تسهم قرارات وقف الاستيراد في حماية المنتج المحلي فعلاً، أم أنها تفتح أبواباً جديدة لمزيد من الأعباء على كاهل المواطن؟
شهدت الأسواق خلال الأيام الماضية ارتفاعاً غير مسبوق في أسعار الفروج والبيض، فطبق البيض (1800 غرام وما فوق) قفز من 23 ألف ليرة إلى 33 ألفاً، في بعض المحافظات، وفي البعض الآخر ارتفع أكثر، فيما قفز سعر كيلو شرحات الفروج من 30 ألفاً إلى 45 ألفاً خلال يومين فقط، مع توقعات بمزيد من الارتفاع.
المربّون عزوا السبب إلى موجة الحر التي تسببت بنفوق أعداد كبيرة من الطيور، وارتفاع تكاليف التربية من أعلاف وأدوية ولقاحات ومعقّمات، إذ يبلغ سعر الصوص عمر ساعة نحو 2500 ليرة، فيما يصل سعر كيلو العلف إلى 3300 ليرة، مع حاجة كل صوص إلى 4 – 5 كيلوغرامات من العلف حتى يصبح جاهزاً للتسويق.. لكن مراقبين آخرين رأوا أن غياب الرقابة واحتكار بعض التجار للسلعة، إضافة إلى قرار وزارة الاقتصاد بمنع استيراد الفروج المجمّد- وإن لم يدخل حيز التنفيذ بعد- ساهم في الضغط على السوق وزعزعة استقرار الأسعار.
بين الذهول والاستياء
أبو أحمد، موظف متقاعد، عبّر عن دهشته من تغيّر الأسعار بين يوم وآخر، قائلاً: نذهب كل يوم إلى السوق وكأننا ندخل في لعبة حظ، كيلو الفروج أمس بسعر، واليوم بسعر آخر! لم نعد نستطيع التخطيط لمصروفنا، فالدخل ثابت، لكن الأسعار تتحرك بسرعة صاروخية.
في المقابل، يقول صاحب مدجنة خاصة، أبو عمر دقماق: نحن لا نربح كما يظن الناس، بل نخسر أحياناً، فارتفاع العلف والدواء والكهرباء يجعلنا عاجزين عن الاستمرار، كما أن بعض المداجن خرجت من الخدمة بسبب الخسائر، وهذا سيؤدي حتماً إلى تراجع العرض وارتفاع الأسعار.
إذاً، ما هي مسوغات الارتفاع، خاصة أنه وبعد التقصي، تم ملاحظة أن سعر الصرف ثابت نوعاً ما منذ أشهر، وبالتالي لا يمكن استخدامه ذريعة للارتفاع، كما أن الأعلاف في السوق المحلية أرخص من أسعار مؤسسة الأعلاف، وهناك مداجن مازالت تعمل، ومع ذلك الأسعار ترتفع بشكل غير منطقي، فهل المشكلة في الكلفة الفعلية، أم في حلقة التوزيع والتسويق حيث تتراكم الأرباح غير المبررة؟
الخضار والفواكه
لم تقتصر موجة الغلاء على قطاع الدواجن، بل امتدت إلى الخضار والفواكه التي ارتفعت أسعارها بنسب وصلت إلى 50 بالمئة في عموم المحافظات.. ففي المنطقة الساحلية مثلاً، بلغ سعر كيلو البندورة بين 6 – 8 ألاف ليرة، بينما تراوح سعر الخيار بين 8000 – 11 ألف ليرة، وسط شكاوى من الأتاوات التي تُفرض على الشاحنات المحمّلة بالخضار، ما يزيد من تكلفة النقل، وبالتالي السعر النهائي للمستهلك.
رئيس لجنة سوق الهال في دمشق، محمد العقاد، أوضح أن السبب الرئيسي لارتفاع الأسعار يعود إلى ارتفاع درجات الحرارة، وتقليل الواردات من بعض المحافظات بسبب الأحداث الجارية، مع انقطاع الطرق أحياناً، نافياً أي علاقة للتصدير بذلك.. لكن عدداً من المهتمين أكدوا أن المسألة لا تقتصر على المناخ أو النقل، بل ترتبط أيضاً بقرارات الاستيراد، حيث ساهم قرار وزارة الاقتصاد بالسماح باستيراد البندورة أثناء الموسم في خفض أسعارها، لكن فور توقف الاستيراد ارتفع السعر مجدداً إلى مستويات قياسية.وعبر نظرة شمولية، أظهرت أن غياب آلية تسعير رسمية ملزمة، يجعل السوق مفتوحة للتجار لفرض أسعارهم كيفما شاؤوا.
حماية أم عبء جديد؟
وزارة الاقتصاد والصناعة أصدرت مؤخراً قراراً يقضي بوقف استيراد مجموعة واسعة من الخضار والفواكه (البندورة، الخيار، البطاطا، الباذنجان، الفليفلة، البصل، الثوم، الليمون، اللوز، الجوز، الفستق الحلبي، التفاح، العنب، الخوخ، التين) خلال شهر أيلول 2025، وذلك استناداً إلى أحكام المرسوم التشريعي رقم 60 لعام 1952 وتعديلاته، وحمايةً للمنتج المحلي.
لكن في الأروقة، تُطرح جملة من الأسئلة منها: هل السوق قادرة على الاستغناء عن الاستيراد؟ وهل لدى الحكومة بنية تحتية للتخزين والتبريد تمنع ارتفاع الأسعار عند نقص الإنتاج المحلي؟ كذلك، هل الرقابة قادرة على كبح الاحتكار؟ جميعها أسئلة تتطلب التمعّن أكثر لمعرفة حيثياتها ومكنوناتها.
يعتقد عدد من المعنيين أن القرار سوف يدعم المنتج المحلي، فالهدف المعلن هو حماية المزارعين المحليين من إغراق السوق بالمنتجات المستوردة الرخيصة، ما يمنحهم فرصة لتسويق إنتاجهم بأسعار تغطي تكاليف الزراعة، كما أنه يعمل على تشجيع الزراعة الوطنية، إذ إن وقف الاستيراد يشكّل حافزاً للمزارعين لزيادة إنتاجهم، ويعزز الأمن الغذائي الداخلي، إضافة إلى ذلك، ربما يتمخّض عن هذا القرار تقليص فاتورة الاستيراد، لأن القرار يقلل من استنزاف القطع الأجنبي الذي تحتاجه البلاد في ظل ظروف اقتصادية صعبة.
ومن سلبيات القرار، كما يرى بعض المختصين، ارتفاع الأسعار محلياً، إذ إن منع الاستيراد خلال فترة الذروة يحدّ من المنافسة ويجعل السوق خاضعة لقوانين العرض والطلب الداخلية فقط، ما قد يؤدي إلى قفزات سعرية غير مبررة، كما شهدنا واقع الحال في البندورة والخيار، علاوة على ذلك، ربما سيشكّل القرار ضغطاً إضافياً على المواطن، فالمستهلك هو الحلقة الأضعف، وهو الذي يدفع الثمن في النهاية، إذ يضطر لشراء الأساسيات بأسعار تفوق قدرته الشرائية، ولا يخفى على أحد غياب البنية التحتية، لأن عدم وجود آليات فعّالة لتخزين الخضار والفواكه أو تصدير الفائض في مواسم الذروة يجعل السوق متقلّبة وغير مستقرة.
بين النظرية والتطبيق
أستاذ الاقتصاد الزراعي الدكتور سمير عويد، يرى أن القرار منطقي على الورق، لكنه ناقص في التطبيق، لأن منع الاستيراد يجب أن يترافق مع إجراءات داعمة، مثل ضبط الأسواق، ومنع الاحتكار، مع تحسين شبكات النقل والتبريد، وتأمين مستلزمات الإنتاج بأسعار مقبولة، أما أن نمنع الاستيراد ونترك السوق بلا تنظيم، فهذا يعني أننا نفتح الباب أمام فوضى سعرية.من جانبه، يشير الخبير الاقتصادي خالد الحسين إلى أن السياسة الحالية تنطلق من نية جيدة لحماية المنتج المحلي، لكنها تتجاهل أن المواطن هو المستهلك النهائي، فإذا لم تنخفض الأسعار أو على الأقل تستقر، فإن أي قرار يصبح بلا جدوى اجتماعية.
المواطن بين المطرقة والسندان
في جولة لصحيفة الثورة على عدد من الأسواق في دمشق وريف دمشق، التقينا عدداً من المواطنين الذين أجمعوا على أن قدرتهم الشرائية تراجعت إلى حدّ كبير.
أم رامي- ربّة منزل، تقول: كنا نشتري كميات من البندورة لإعداد المونة الصيفية، الآن بالكاد نشتري نصف الكمية، جراء ارتفاع الأسعار والنوعية غير الجيدة، بينما الفروج أصبح رفاهية، والبيض يختفي عن مائدة الفطور، وبعض القرارات لا نفهمها، إلا أن ما يهمنا أن نتمكّن من تأمين غذائنا اليومي.
في المقابل، عبّر تيم السلمان- موظف، عن غضبه من تبريرات المسؤولين، فقال: دائماً يعلّقون الأمر على حرارة الطقس أو سعر الصرف أو الأحداث الأمنية، لكننا لم نعد نقتنع، لأنه على أرض الواقع، الأسعار ترتفع بسرعة، أما رواتبنا فهي متجمدة منذ سنوات، لكن حالياً بتنا نتنفس بعد الزيادة الأخيرة على الرواتب، إذ تغيّر الوضع نحو الأحسن قليلاً، لكن زيادات الأسعار ستجعلنا نتوه في غياهب العجز الاقتصادي.
حلول مطروحة
يؤكد مختصون أن معالجة الأزمة تتطلب مروحة واسعة من الإجراءات، أبرزها: تفعيل الرقابة الصارمة على الأسواق لمنع التلاعب والاحتكار، مع إيجاد توازن بين الاستيراد والإنتاج المحلي، ويتم السماح بالاستيراد عند الحاجة فقط لمنع الفراغ في السوق، ناهيك عن دعم المزارعين والمربين لتأمين الأعلاف والأدوية بأسعار مدعومة، وتقديم تسهيلات في القروض، إضافة إلى تحسين شبكات النقل والتخزين لتقليل الفاقد في الإنتاج وخفض تكلفته النهائية، مع وضع سياسات واضحة وطويلة الأمد، بدلاً من القرارات المتقلّبة التي تخلق ارتباكاً في السوق.
استناداً إلى آراء خبراء الاقتصاد الزراعي والتجاري الذين استطلعناهم، فإن الحلول تتوزع على عدة مستويات، منها: إعادة النظر في قرارات الاستيراد، بحيث تكون مرنة وتراعي مصلحة المواطن وليس فقط المنتج، إطلاق آلية تسعير مركزية تربط السعر بالتكلفة الفعلية مع هامش ربح محدد، محاربة الاحتكار بجديّة عبر لجان رقابية مستقلة وشفافة، فضلاً عن دعم المداجن والمزارع الصغيرة بالقروض، وبدعم الأعلاف لتقليص الفجوة بين التكلفة والسعر، مع الاستثمار في التخزين والتبريد، لتجنّب موجات الغلاء الموسمية.
يتجاوز حدود الاحتمال
ما بين ارتفاع أسعار الفروج والبيض، وتقلّب أسعار الخضار والفواكه، يجد المواطن السوري نفسه في مواجهة واقع اقتصادي صعب يتجاوز حدود الاحتمال، فالقرارات التي تهدف إلى حماية المنتج المحلي تبدو في ظاهرها منطقية، لكنها في غياب آليات التنفيذ والرقابة تتحوّل إلى عبء إضافي على المستهلك.
الرهان الحقيقي لا يكمن في وقف الاستيراد أو فتحه فقط، بل في إيجاد سياسة متكاملة تدعم المزارع والمربي من جهة، وتحمي المستهلك من جهة أخرى، وحتى يتحقق ذلك، سيظل المواطن يلاحق الأسعار المتقلّبة وهو يتساءل: إلى متى سنبقى ندفع ثمن فوضى السوق؟
وبين حرارة الطقس وبرودة القرارات، يظل المواطن السوري في قلب معركة يومية لتأمين غذائه، والقرارات المجتزأة تزيد الطين بلّة، بينما تتضارب الأرقام والتصريحات، هناك سؤال لم تتم الإجابة عنه حتى الآن: من يربح من هذه الفوضى؟ هل هم كبار التجار والمحتكرون؟ أم بعض الجهات المستفيدة من قرارات الاستيراد والتصدير؟ إلى أن تأتي إجابة شفافة وحلول حقيقية، ستبقى الموائد السورية تعكس واقعاً مريراً.. أزمات متلاحقة، ومواطن يدفع الثمن دائماً.