الثورة – ميسون حداد:
أعلن مصرف سوريا المركزي قبل أيام أنه في مراحل متقدمة لوضع خطة من أجل طرح عملة جديدة، ويُعتبر هذا الحدث في المجتمع السوري هاماً جداً، يتجاوز الجوانب المالية والاقتصادية ليطول البعد الاجتماعي.
وفي مجتمع عاش تغييرات جذرية يصبح هذا التحول أكثر حساسية فيشعر المواطن أنه أمام محطة جديدة قد تعيد رسم ملامح يومياته، ما يثير عدة هواجس وتساؤلات..
وأكد الدكتور طلال مصطفى أستاذ علم الاجتماع في جامعة دمشق سابقاً ومدير قسم التقارير في مركز حرمون للدراسات المعاصرة لصحيفة “الثورة”، أنَ تغيير العملة يمثّل لأي دولة حدثاً اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً بالغ الأثر، إذ يمتد تأثيره ليطال بنية العلاقات الاجتماعية والثقة المتبادلة بين الأفراد والمؤسسات.
وأضاف: “في الحالة السورية، حيث يعاني المجتمع مستويات مرتفعة من التفاوت الطبقي والانقسامات الجغرافية والسياسية، يشكّل هذا التحول اختباراً جديداً لمدى قدرة النسيج الاجتماعي على التماسك أو الانقسام”.
رمز جديد لمرحلة جديدة
الخطوة التي أعلن عنها المصرف المركزي، تأتي أقرب إلى لحظة ولادة رمزية لشعب أنهكته السنوات، وتغيير الورقة النقدية بحد ذاته يأتي بمنزلة إعلان أنّ هناك زمناً قد انتهى، وبدأ زمن آخر، فرحيل صور الماضي مع ما يحمله من رموز النظام البائد، يعني أن سوريا بدأت تكتب وجهاً جديداً لها، يليق بالتحرير وبأمل الناس بمستقبل أفضل.
التأثير على النسيج الاجتماعي
إن أي تغيير في العملة يعكس نفسه على أنماط التفاعل الاجتماعي، لأن المال يشكل الوسيط الأكثر حضوراً في الحياة اليومية.. ففي حال غياب الضمانات الكافية أو غموض الإجراءات المصاحبة، قد يؤدي الأمر إلى تعميق التوترات بين الفئات الاجتماعية المختلفة.
وأوضح د. مصطفى ” إنً فقدان المدخرات أو تراجع قيمتها الفعلية قد يولد إحساساً متزايداً بالغبن الاجتماعي، خاصة لدى الشرائح الأضعف التي لا تمتلك بدائل لحماية نفسها”.
وتابع أنّ الإحساس بالغبن يعمّق الشرخ القائم بين الطبقات، ويهدد بمزيد من التباعد بين الفئات الغنية جداً والفقيرة جداً، خاصة في ظل غياب الطبقة الوسطى في سوريا في الوقت الحالي.
الفئات الأكثر تضرراً أو استفادة
تتفاوت مستويات القلق بين طبقات المجتمع عند تغيير العملات، فالفقراء الذين لا يملكون سوى قوت يومهم، تلقوا الخبر بارتباك وخوف مضاعف وهذا ما أكده د. طلال قائلاً: “من المرجح أن تكون الفئات الشعبية الفقيرة جداً ومحدودة الدخل والموظفون المعتمدون على الرواتب الحكومية هم الأكثر تضرراً”.
وبين أن هذا يعود إلى أن الدخل بالعملة المحلية السورية بشكل كامل، وأن الفئات الفقيرة لا تملك القدرة على التحوّط عبر الأصول أو العملات الأجنبية. كما قد يتضرر صغار التجار والمهنيون الذين يعتمدون على التدفقات النقدية اليومية بحسب قوله.
أما أصحاب الطبقة الوسطى الذين يعيشون على أمل الاستقرار، وبالكاد يدّخرون بضع أوراق نقدية لتأمين مستقبل الأبناء أو مواجهة الطوارئ، فيعيشون قلقاً أشد، خوفاً من تبخر تعب العمر كله بلحظة.
في المقابل، كبار التجار وأصحاب رؤوس الأموال يتعاملون مع الخبر ببرودة نسبية، فقد يستفيدون من التغيير عبر تحويل الأموال إلى العملات الصعبة أو شراء الذهب، لافتاً إلى أن “كبار التجار وأصحاب الرساميل الكبيرة يستطيعون تحويل أموالهم إلى عملات أجنبية أو ذهب أو عقارات، وكذلك المضاربون والجهات المرتبطة بالسلطة القادرة على استغلال عملية التغيير لتحقيق مكاسب خاصة”.
وبين هؤلاء وأولئك، قد تتسع الفجوة الاجتماعية، ما يعمّق الشعور بعدم المساواة، وقد تؤدي إلى تفاقم الاحتقان الاجتماعي ويصبح تبديل العملة اختباراً جديداً للعدالة.
العلاقات اليومية في الأسواق
مع استبدال العملة، قد تتأثر الحياة اليومية مباشرة، فالأسعار قد تُربك البائع والمشتري معاً، والديون القديمة تُطرح حولها أسئلة جديدة، هل تُسدّد بالعملة القديمة أم الجديدة؟ وكيف تُحسب قيمتها؟ وأجور العمال تصبح موضع جدال، وينعكس هذا الارتباك على الأسواق والعلاقات البسيطة بين الناس..وقد تتحوّل المعاملات المالية في كثير من الأحيان، إلى مصدر للتوتر داخل العائلة أو في المجتمع عامة.
انعكاس التغيير على المؤسسات الرسمية
وحول انعكاس تغيير العملة على الثقة بالمؤسسات الرسمية أكد د. مصطفى أن الثقة بالمؤسسات المالية الرسمية وخاصة المصرف المركزي هي أحد أهم المرتكزات الجوهرية لأي إصلاح نقدي.
وأوضح قائلاً: “إذا نُفذت عملية تغيير العملة بطريقة شفافة وعدالة واضحة، فقد تسهم في تعزيز ثقة المواطنين بالدولة، باعتبارها قادرة على حماية مصالحهم المالية وتنظيم الاقتصاد”.
وفي حال اتسمت عملية التغيير بالغموض، أو أفضت إلى خسائر كبيرة لشرائح واسعة من السكان، أشار د. مصطفى، أنها ستؤدي إلى تآكل إضافي في الثقة، وربما تدفع المواطنين إلى البحث عن بدائل اقتصادية موازية، كالاعتماد على العملات الأجنبية أو الاقتصاد غير الرسمي، وهو ما يضعف سلطة الدولة الاقتصادية على نحو أكبر.
وعن دور الثقافة الشعبية والوعي الجمعي
قال: تلعب الثقافة الشعبية والذاكرة الجمعية تلعب دوراً حاسماً في كيفية تفاعل المجتمع مع تغيير العملة يقول الدكتور طلال مصطفى، فالتجارب السابقة مع التضخم والأزمات النقدية جعلت الوعي الشعبي ميّالاً إلى الحذر والتشكيك، وأوضح: “هذا يترجم غالباً في سلوكيات مثل تحويل المدخرات إلى الدولار أو الذهب، وتخزين السلع الأساسية، وتجنب الثقة بالوعود الرسمية”.
وأما بالنسبة للروابط الاجتماعية التقليدية، فإنّ آليات تضامن جزئي تساعد الفئات الأضعف على مواجهة الصدمات.. وهذا التداخل بين الحذر الشعبي والتضامن الأهلي يشكّل محدداً مهماً في كيفية عبور المجتمع لمثل هذا التحول.
إلغاء الأصفار من العملة بين الإيجابيات والسلبيات
يُطرح في كثير من الدول خيار إلغاء الأصفار كإجراء يهدف إلى تبسيط المعاملات المالية، وتقليل الأعباء المحاسبية والإدارية.
وحول إيجابيات وسلبيات هذا الإجراء أوضح د. طلال حول الإيجابيات انها تسهيل التداول النقدي والعمليات المحاسبية اليومية.. إضافة إلى تحسين المظهر الرمزي للعملة بما يوحي بالاستقرار والقوة. أيضاً تعزيز ثقة نسبية بالنظام النقدي إذا ترافق مع إصلاحات اقتصادية أوسع.
وعن السلبيات الجدية التي يمكن أن تنتج إذا لم يكن الإجراء جزءاً من سياسة اقتصادية شاملة أضاف..
أولاً ـ لا يعالج جوهر الأزمة التضخمية، بل يبقى مجرد تغيير شكلي في الأرقام.
ثانياً ـ قد يؤدي إلى ارتباك شعبي واسع، خصوصاً في البيئات محدودة التعليم المالي.
ثالثاً ـ إذا لم يُرافق بضبط الأسعار والرقابة، فقد يستغله التجار لإعادة تسعير السلع بشكل يضر بالمستهلك.
رابعاً ـ في حالة انعدام الثقة بالدولة، قد يُنظر إليه بوصفه محاولة للتغطية على الفشل الاقتصادي بدل كونه أداة إصلاح.. وبذلك، فإن إلغاء الأصفار قد يكون أداة مفيدة لتحسين الكفاءة الشكلية للنظام النقدي، لكنه لا يمثل علاجاً بنيوياً للأزمة الاقتصادية ما لم يندمج في برنامج متكامل لإعادة بناء الثقة بالعملة والاقتصاد الوطني.
تغيير العملة إجراء اجتماعي اقتصادي
في النهاية، هل العملة الجديدة ستحمل فقط شكلاً جديداً، أم أنها ستحمل معها بداية جديدة للثقة والأمان؟ هذا الإجراء هو عملية اجتماعية اقتصادية تتوقف نتائجها على مدى عدالة وشفافية التطبيق، إذا كان يعكس استراتيجية اقتصادية شاملة أم مجرد خطوة رمزية، فالمجتمع لا يعيش على الأرقام وحدها، بل على إحساس الناس بأن غدهم مضمون.
ويبقى السؤال مفتوحاً للمستقبل.. هل سيكون القلق هو العنوان الأبرز، أم ستجد الطمأنينة باباً ليوميات الناس مع العملة الجديدة؟