الثورة – لينا شلهوب:
المعلم هو القلب النابض لهذه العملية الحضارية الكبرى، وعلى مرّ التاريخ، كان المعلّم رمزاً للوعي والتضحية والانتماء، وفي السياق السوري تحديداً شكّل المعلمون أحد أعمدة الصمود والمقاومة في وجه الظروف الاستثنائية التي عاشتها البلاد.
وفي هذا الإطار، أعلنت وزارة التربية والتعليم مؤخراً عن خطوة نوعية طال انتظارها، تمثلت في إعادة الكوادر التعليمية المفصولة بسبب مشاركتها في الثورة السورية المباركة إلى أعمالها، في بادرة وفاء ورد اعتبار تليق بتضحياتهم الكبيرة.
خلفية القرار
منذ اندلاع الثورة السورية، تعرّض آلاف المعلّمين إلى الفصل من وظائفهم أو التهميش الإداري بسبب مواقفهم الوطنية وانحيازهم لحقوق الشعب السوري، هؤلاء الكوادر الذين كان يفترض أن يكونوا في الصفوف الأولى لبناء الأجيال، وجدوا أنفسهم بعيدين قسراً عن رسالتهم التربوية، الأمر الذي انعكس سلباً على العملية التعليمية وعلى المجتمع بأسره، قرار الوزارة الأخير جاء بمثابة تصحيح لمسار طويل من الإقصاء، وإعادة الاعتبار لشريحة قدّمت الكثير ولم تنل ما تستحقه.
تفتح أبوابها
وبيّن وزير التربية والتعليم الدكتور محمد تركو أنّ الوزارة، وبدعم من الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية ووزارة التنمية الإدارية، ستفتح أبوابها أمام الكوادر المفصولة لعودتهم إلى مواقعهم السابقة في مديريات التربية والتعليم، حيث حدّدت الفترة ما بين الأول من أيلول وحتى الخامس عشر منه موعداً رسمياً لمراجعة هذه الكوادر لمديرياتهم، من أجل استكمال الإجراءات الإدارية اللازمة لمباشرة أعمالهم.
كما أكد أن هذه العودة لا تقتصر على الجانب الوظيفي أو الإداري، بل تحمل رسالة رمزية عميقة، مفادها أن المعلم سيظل عماد العملية التربوية، وأن الدولة حريصة على تكريم تضحياته وحفظ مكانته.
الدلالات الوطنية والاجتماعية
يحمل هذا القرار أبعاداً متعددة تتجاوز الطابع الوظيفي، من خلال ردّ الاعتبار، فالقرار يعيد للمعلمين كرامتهم بعد سنوات من الإقصاء، ويثبت أن تضحياتهم لم تذهب سدى، كذلك تعزيز اللحمة الوطنية، عبر احتضان هذه الكوادر مجدداً، كما ترسّخ الوزارة مبدأ المصالحة المجتمعية وتعزيز الثقة بين المواطن والمؤسسات الحكومية، مع العمل على تقدير الدور التربوي، من خلال الاعتراف بأن المعلم ليس مجرد موظف، بل هو حامل رسالة أخلاقية وإنسانية تؤثر مباشرة في وعي الأجيال المقبلة.
على الصعيد التربوي، فإن عودة هذه الكوادر ستنعكس إيجاباً على المنظومة التعليمية، من خلال رفد المدارس بالخبرات، إذ إن كثيراً من هؤلاء المعلمين يمتلكون خبرات طويلة اكتسبوها قبل فصلهم، وستساهم عودتهم في سدّ النقص الذي تعانيه بعض المديريات، ناهيك عن توازن العملية التعليمية، فوجود كوادر مؤهلة ومتمرّسة، سيُتاح للطلاب فرص تعليم أكثر جودة واستقراراً، ونقل القيم الوطنية، لأن عودة المعلمين الذين جسّدوا مبادئ التضحية ستمنح الطلاب قدوة حية في الالتزام والصدق والانتماء.
البعد الاقتصادي والمعيشي
لا يمكن إغفال أن هذا القرار يحمل جانباً اقتصادياً مهماً، فالكثير من هؤلاء المعلمين عانوا من ضيق العيش والبطالة القسرية خلال سنوات فصلهم، وعودتهم اليوم ستؤمّن لهم مصدر دخل كريم، وتخفف من الأعباء المعيشية التي أثقلت كاهلهم، ومن جهة أخرى، يوجّه القرار رسالة دعم واضحة لفئة المعلمين بوصفهم شريحة أساسية تستحق الاستقرار والتمكين المادي والمهني.
لم تغفل الوزارة في بيانها عن توجيه الشكر للأمانة العامة لرئاسة الجمهورية ووزارة التنمية الإدارية، لما قدّمتاه من دعم لإنجاز هذا الملف الوطني، ويُظهر هذا التعاون المؤسسي أن هناك إرادة سياسية حقيقية لفتح صفحة جديدة، تستند إلى العدالة ورد الحقوق، وتعزيز مقومات النهضة التعليمية.
التحديات المنتظرة
ورغم أهمية القرار، تبقى هناك تحديات ينبغي معالجتها، منها: ضرورة وضع خطط تدريب وتأهيل لهؤلاء الكوادر، لمواكبة التطورات التربوية التي حدثت خلال سنوات غيابهم، مع تأمين بيئة عمل محفزة تحميهم من أي تمييز أو إقصاء جديد، كذلك تطوير البنية التحتية التعليمية بحيث تستوعب هذا العدد الكبير من العائدين دون أن يتسبب ذلك في تضخم وظيفي أو تراجع جودة التعليم.
إن خطوة وزارة التربية والتعليم بإعادة الكوادر التعليمية المفصولة إلى أعمالها تمثل قراراً وطنياً وإنسانياً بامتياز، يبعث برسائل عميقة إلى المجتمع بأسره، فهي من جهة تُنصف المعلّمين الذين دفعوا ثمناً غالياً لمواقفهم الوطنية، ومن جهة أخرى تعزز العملية التعليمية وتعيد إليها روحها، الأهم أنّها تؤكد أنّ المعلم سيبقى دائماً في موقع الصدارة، لأنه حجر الأساس في بناء الأجيال وصناعة المستقبل.
بهذا القرار، تجدد الدولة عهدها بالوقوف إلى جانب المعلمين، دعماً لمكانتهم الاجتماعية والمهنية، وإيماناً برسالتهم السامية التي لا تقل أهمية عن أي جهد وطني آخر، إنها بداية جديدة تحمل في طياتها آمالاً واسعة بمستقبل تربوي أفضل، وبناء مجتمع أكثر عدالة ووفاء لتضحيات أبنائه.