أسواق حلب.. وجوه مرهقة تبحث عن الأرخص وسط نار الغلاء

الثورة – جهاد اصطيف:

لم تعد أسواق حلب، التي لطالما شكّلت عصب الحياة التجارية في سوريا، تضجّ بالحيوية التي اشتهرت بها لقرون طويلة. فمنذ سنوات، ومع تراكم الأزمات الاقتصادية والمعيشية، تغيرت صورة الأسواق بشكل جذري.

اليوم، تسير في شوارعها فتلمح وجوهاً متعبة، عيوناً قلقة، وأيدي تتحسّس ما تبقى في الجيوب قبل أن تختار حاجياتها. بهجة التسوق غابت، لتحل مكانها رحلة شاقة في البحث عن الأرخص، ومحاولة يائسة للتأقلم مع واقع اقتصادي ضاغط.

الليرة المثقلة بالأعباء

تعود جذور الغلاء في حلب إلى التراجع الكبير في قيمة الليرة السورية أمام العملات الأجنبية، فمنذ بداية التحرير، شهد سعر الصرف تقلبات حادة، إذ تجاوز الدولار في بعض الفترات عتبات خيالية، قبل أن يتراجع رويداً رويداً ليستقر عند عتبات الـ 9 آلاف ليرة، لكنه لم يترك أثره الإيجابي على الأسواق- كما هو الحال الآن- فالأسعار ترتفع مع كل قفزة في سعر الدولار، لكنها لا تعود إلى ما كانت عليه عند تراجعه، وهو ما يصفه الخبراء بـ”التسعير النفسي” القائم على استباق الخسائر والاحتفاظ بهوامش ربح عالية.

هذا الواقع انعكس مباشرة على حياة المواطنين، فالموظف الذي لا يتجاوز دخله الشهري 900 ألف ليرة، بات عاجزاً عن تغطية نفقات أسبوع واحد من أساسيات الغذاء، أما المتقاعد الذي يعتمد على معاش ثابت، ربما يكون أقل من ذلك، فيجد نفسه أمام معادلة مستحيلة بين الدواء والغذاء والفواتير.

رحلة البحث عن الأرخص

في سوق باب الجنان وسط المدينة، تتنقل أم سامي “٥٥ عاماً” من بسطة إلى أخرى، تمسك بكيس صغير وتحاول المساومة، تقول بلهجة متعبة : هذه رابع بسطة أسأل صاحبها عن البطاطا، وكل واحد له سعر، لم أعد أشتري بالكمية، فقط 2 كيلو تكفيني ليومين. لم يعد الطعام أولويتنا الوحيدة، هناك التزامات أخرى مثل أجرة البيت والفواتير.

قصة أم سامي، ليست استثناء، فالتفاوت الكبير بين الأسعار بات سمة ملازمة للأسواق.. يشتكي المواطنون من أن سلعة معينة قد تباع في محل بسعر أقل بنسبة 10 بالمئة أو أكثر من محل آخر لا يبعد سوى أمتار!، هذا التباين يجعل من التسوق مهمة شاقة لأرباب الأسر الذين يضطرون لقضاء ساعات طويلة بين الأسواق للعثور على السعر الأرخص.

أسعار تلامس حدود المستحيل

جولة قصيرة لصحيفة الثورة في أسواق حلب، تكشف حجم الفجوة بين الدخل والأسعار، كيلو الأرز العادي بلغ 11 ألف ليرة، والسمنة النباتية 36 ألفاً، وليتر الزيت 22 ألفاً، كيلو السكر وصل إلى 9 آلاف ليرة. بينما لامس سعر كيلو لحم الغنم 140 ألفاً، ما يجعل شراء نصف كيلو خياراً بديلاً عند الكثير من العائلات.

أما الخضار والفواكه التي كانت تعتبر “طعام الفقراء”، فقد ارتفعت أسعارها أيضاً، إذ وصل كيلو البطاطا المالحة إلى 6 آلاف ليرة، البندورة 5 آلاف، الباذنجان 3 آلاف، والكوسا 7 آلاف. هذه الأرقام، وإن بدت عادية قياساً لأسعار بعض الدول، إلا أنها تفوق بكثير قدرة المواطن الحلبي الذي يتقاضى دخلاً محدوداً.

في حي هنانو، يجلس أبو زهير “65 عاماً”، وهو متقاعد من القطاع العام، على كرسي خشبي أمام دكان صغير، ويستعيد بمرارة أيامه الماضية: قبل سنوات كنا نشتري كل شيء بكميات، بيتنا لم يكن يخلو من اللحوم والأجبان، اليوم بالكاد نطبخ طبخة معتبرة مرة بالشهر إذا عزمنا أحد الأهل، الأسعار لم تعد منطقية أبداً.

هذا التغيير في أنماط الاستهلاك بات واضحاً، تقارير غير رسمية تشير إلى أن استهلاك اللحوم تراجع بنسبة تزيد عن ٧٠ بالمئة مقارنة بما قبل الأزمة، فيما ارتفع الاعتماد على البقوليات كالعدس والحمص والفول، حتى هذه المواد لم تسلم من الغلاء، لكنها تبقى الخيار الأقل كلفة.

تأثير نفسي واجتماعي

إلى جانب الضغوط المعيشية المباشرة، خلّف الغلاء آثاراً نفسية واجتماعية عميقة. كثير من الأهالي باتوا يترددون في استقبال الضيوف خشية تكاليف الضيافة، أما الأطفال، فقد حرموا من الحلويات والأطعمة التي كانت جزءاً من حياتهم اليومية.

تقول “أم إياد” من حي صلاح الدين، وهي أم لخمسة أولاد : ابنتي الصغيرة طلبت مني قطعة شوكولا، سعرها 5 آلاف ليرة، لم أستطع شراءها، بكاؤها أمامي كان أصعب من أي شيء، لم أكن أتخيل أن يأتي يوم لا أستطيع فيه شراء أبسط الأشياء.

يرى العديد من الباعة أن المشكلة لا تكمن فقط في سعر الصرف، بل أيضاً في تحكم التجار الكبار بالأسواق.

يبين أحد بائعي المواد الغذائية في حي الجميلية، أن المستورد يبيع لتاجر جملة، وهذا يوزع لتجار أصغر، وكل واحد يضيف هامش ربحه، السلعة تصل للمستهلك أضعاف سعرها الحقيقي.

هذا التشابك في الحلقات الوسيطة، يجعل الأسعار عرضة للتلاعب والمضاربة، ورغم محاولات الجهات المعنية تنظيم الأسواق عبر الدوريات، إلا أن ضعف الرقابة وغياب العقوبات الرادعة يفتح المجال واسعاً أمام الفوضى.

لا يمكن الحديث عن حلب من دون التوقف عند تاريخ أسواقها الشهيرة، مثل سوق المدينة المسقوفة، الذي يعد من أقدم وأكبر الأسواق المغطاة في العالم، هذه الأسواق كانت مركزاً تجارياً نابضاً، يستقطب الزوار والتجار من مختلف أنحاء المنطقة.

اليوم، ورغم استمرار الحركة نسبياً، إلا أن صورة الأسواق تغيرت بشكل كبير، المحال التي كانت تتزين بالبضائع الفاخرة، تقلصت محتوياتها، والبضائع المستوردة تراجعت لصالح منتجات محلية أقل جودة، ومع ذلك، لا يزال الحلبيون يتمسكون بزيارة الأسواق، ولو لشراء حاجيات بسيطة، وكأنها محاولة للحفاظ على جزء من هويتهم وحياتهم الاجتماعية.

فجوة بين الدخل والإنفاق

يرى الخبير الاقتصادي فادي حمود خلال حديثه لـ الثورة، أن المشكلة الأساسية تكمن في الفجوة الكبيرة بين الدخل والإنفاق، فدخل الموظف السوري اليوم لا يغطي سوى 10 إلى 20 بالمئة من حاجاته الشهرية، هذا يضع المواطن أمام خيارين، إما الاستدانة أو الاستغناء عن الكثير من أساسيات الحياة.

ويضيف: الحل لا يكمن فقط في كبح المضاربة على سعر الصرف، بل في ضبط الأسواق وتقليص عدد الوسطاء بين المنتج والمستهلك، كما أن دعم سلة غذائية أساسية، بات ضرورة ملحة لتخفيف العبء عن الأسر ذات الدخل المحدود.

رغم قسوة الظروف، يحاول الحلبيون التكيّف بطرق مختلفة، بعض العائلات تشارك في شراء كميات أكبر من المواد وتقسيمها فيما بينها لتخفيف الكلفة. آخرون يستغنون عن الوجبات الدسمة لصالح وجبات أبسط، أما البعض، فيلجأ إلى زراعة أسطح المنازل بالخضار البسيطة كالنعناع والبقدونس لتقليل النفقات.

على لوائح الانتظار

بين الأسواق المزدحمة شكلياً والفارغة مضموناً، يعيش الحلبيون معاناة يومية، عنوانها الغلاء والبحث عن الأرخص، ورغم محاولاتهم المستمرة للتأقلم، يبقى السؤال : إلى متى يمكن أن يستمر هذا الواقع؟

الجواب يبدو ليس سهلاً، لكن المؤكد أن أي انفراج اقتصادي، لن يكون قريباً من دون معالجة جذرية لأسباب الأزمة من تثبيت سعر الصرف، إلى تحسين الدخل، وضبط الأسواق، وتخفيف العبء عن المواطن البسيط، حتى ذلك الحين، سيظل المشهد في أسواق حلب مرآة لمعاناة السوريين وحنينهم لأيام كانت الموائد عامرة والأسواق أكثر رحمة.

آخر الأخبار
"تقصي الحقائق" بأحداث السويداء تلتقي المهجّرين في مراكز الإيواء في إزرع علاقات اقتصادية مع روسيا في إطار تبادل المصالح واحترام السيادة الوطنية تعاون سوري – عُماني لتعزيز القدرات في إدارة الكوارث شراكة جديدة لتحديث التعليم وربط الشباب بسوق العمل زيارة الوفد الروسي.. محطة جديدة في العلاقات المتنامية بين دمشق وموسكو سوريا وروسيا تبحثان بناء شراكة قائمة على السيادة والمصالح المشتركة سوريا: الاعتداء الإسرائيلي على قطر تصعيد خطير وانتهاك سافر للقانون الدولي الشيباني: سوريا تفتح باب التعاون مع روسيا.. نوفاك: ندعم وحدة واستقرار سوريا استهداف قيادات حماس في الدوحة.. بين رسائل إسرائيل ومأزق المفاوضات "إدارة وتأهيل المواقع المحروقة للغابات" في طرطوس تحالف يعاد تشكيله.. زيارة نوفاك  لدمشق ملامح شراكة سورية –روسية  دمشق وموسكو  .. نحو بناء علاقات متوازنة تفكك إرث الماضي  بين إرث الفساد ومحاولات الترميم.. هل وصلت العدالة لمستحقي السكن البديل؟ حلب تفرض محظورات على بيع السجائر.. ومتخصصون يؤيدون القرار 1431 متقدماً لاختبار سبر المتفوقين في حماة أسواق حلب.. وجوه مرهقة تبحث عن الأرخص وسط نار الغلاء دمشق وموسكو.. إعادة ضبط الشراكة في زمن التحولات الإقليمية "اللباس والانطباع المهني".. لغة صامتة في بيئة العمل المغتربون.. رصيد اقتصادي لبناء مستقبل سوريا الأردن: القصف الإسرائيلي على سوريا تصعيد خطير وانتهاك للميثاق الأممي