حين تتحوَّل رسوم حماية الصناعة الوطنية إلى أداة لخنقها!

الثورة – تحقيق: هلال عون:

هل يمكن لمنتجٍ محليٍّ لا يتحمل أجورَ نقل ولا تكاليف شحن ولا مخاطرَ استيراد أن يكون أغلى من المستورد؟! سؤالٌ يتردّد على ألسنة كثيرين في الأسواق السورية اليوم، في ظلّ موجةٍ من المطالبات برفع الرسوم الجمركية على السلع المستوردة بذريعة “حماية الصناعة الوطنية”. لكنّ أصواتاً اقتصادية متزايدة تحذِّر من أن هذا الطريق، وإن بدا في ظاهره دعماً للمنتج المحلي، فإنه في عمقه قد يتحوّل إلى عبءٍ جديد يثقل الصناعة نفسها، إذا لم يترافق مع تطويرٍ حقيقي للإنتاج المحلي وخفض تكاليفه وتحسين جودته.

رؤية الصناعيين

يرى عددٌ من رؤساء غرف الصناعة والتجارة أن الإجراءات الحمائية ضرورة مرحلية لحماية المنشآت المحلية من “الإغراق السلعي” الذي تمارسه بعض المستوردات الجاهزة.

رئيس غرفة صناعة دمشق وريفها أيمن مولوي دعا، في حديث سابق لصحيفة الثورة، إلى اتخاذ إجراءات فورية تشمل رفع الرسوم الجمركية ووقف استيراد بعض السلع مؤقتاً، معتبراً أن “استيراد كميات كبيرة من السلع الجاهزة أدى إلى إغراق السوق، وتوقّف عدد من المصانع عن العمل”.

وفي الاتجاه ذاته، أيّد رئيس غرفة تجارة ريف دمشق عبد الرحيم زيادة الفكرة، لكنه دعا إلى أن تكون الزيادات “معقولة ومدروسة”، موضحاً أن الهدف هو خلق منافسة عادلة بين المحلي والمستورد. ومع ذلك، أشار بوضوح إلى أن نجاح هذا الإجراء مشروط بتخفيض كلف الإنتاج محلياً، فـ”خفض تكاليف الطاقة والرسوم على الصناعات الوطنية سيسمح بطرح منتجات سورية بأسعارٍ منافسة وجودة عالية”.

حين تنقلب الحماية على الصناعة

التجارب على الأرض تُظهر أن رفع الرسوم دون إصلاحات موازية في بيئة الإنتاج قد ينعكس سلباً على المصانع نفسها. العضو السابق في غرفة صناعة دمشق وريفها، حسام عابدين يقدّم مثالاً صارخاً على ذلك من خلال مادة زيت الصويا المعطل التي تدخل في صناعة “الألكيد ريزين”.

يقول عابدين، في تصريح سابق لصحيفة الثورة: إن هذه المادة تُعامل وكأنها منتج ترفيهي فتُفرض عليها رسوم جمركية تصل إلى 300 دولار للطن الواحد، أي نحو 30% من قيمتها، تحت ذريعة حماية صناعة الزيوت، ما رفع تكلفة إنتاج “الألكيد ريزين” بنسبة 20% مقارنة بالمستورد المماثل، وأدى إلى توقف شبه كامل هذه المعامل عن العمل.

بهذا المعنى، تتحوّل الرسوم التي وُضعت لحماية الصناعة إلى أداة لخنقها من الداخل.

الحماية الذكية

في مواجهة الدعوات لرفع الجمارك، يطرح الباحث الاقتصادي، الدكتور فادي عياش مفهوم “الحماية الذكية”، الذي يقوم على التدرّج والانفتاح المنظّم بدل الإغلاق والقيود. ويشرح عياش فكرته بقوله: إن تنمية الصناعة الوطنية لا تتحقق بإغلاق السوق، بل بتأهيلها لتنافس في سوقٍ مفتوحٍ يقوم على الجودة والكفاءة.

ويضيف، في تصريح سابق لصحيفة الثورة: تتعدّد أشكال الحماية الذكية لتشمل دعم الصادرات، وتسهيل التمويل، وتخفيض الضرائب على المواد الأولية، وتيسير الإجراءات الإدارية، بحيث تكون الحماية حافزاً للإنتاج لا عائقاً أمامه.

ويرى عياش أن المشكلة ليست في وجود المستورد، بل في ضعف الميزة التنافسية للمنتج المحلي، داعياً إلى “استراتيجية الحوت والسمكة” التي تقوم على التعاون والتكامل لا المواجهة، بحيث يستفيد المنتج الوطني من الخبرات والأسواق والشراكات الدولية.

تطوير الصناعة لا حجب المنافسة

ما يطرحه الاقتصاديون يشير إلى أن المعركة الحقيقية ليست على الحدود الجمركية، بل داخل المصانع نفسها. فالصناعة المحلية بحاجة إلى طاقةٍ أرخص، وتمويلٍ أسهل، وتكنولوجيا أحدث، وإدارةٍ أكثر كفاءة. عندها فقط يصبح المنتج المحلي قادراً على المنافسة دون أن يحتاج إلى حماية مصطنعة.

وفي المقابل، فإن رفع الرسوم الجمركية بشكلٍ عشوائي قد يرفع الأسعار على المستهلك، ويحدّ من الخيارات المتاحة أمامه، دون أن ينعكس فعلاً على تحسّن المنتج المحلي.

المستهلك بين المطرقة والسندان

يدفع المستهلك في نهاية المطاف ثمن السياسات غير المتوازنة. فإذا ارتفعت الرسوم الجمركية على المستوردات، سترتفع الأسعار في السوق، بينما يبقى المنتج المحلي، في كثير من الحالات، أغلى وأقل جودة.

وفي غياب إصلاح حقيقي لبيئة الإنتاج، تتحول الحماية إلى شكلٍ من أشكال “الجباية المقنّعة”، لا يستفيد منها سوى القلة القادرة على البقاء في السوق المحمية.

حين تموت الشركات!

قبل عقدين فقط، كانت الشركات الصناعية السورية تعمل في سوق شبه مغلق، لا يعرف المنافسة الحقيقية. مع الانتقال إلى اقتصاد السوق الحر سيتغيّر كل شيء، فالحدود التجارية ستنفتح، والتكنولوجيا ستدخل بقوة، والمستهلك أصبح أكثر وعياً بالأسعار، وأكثر معرفة بجودة السلعة، وبالتالي في الاختيار.

المشكلة ستكون في المصانع التي لم تتغير، والتي لا تزال تُدار بذات الطريقة، بنفس الآليات القديمة، وبعقلية “الورشة العائلية”، كما يصفها الدكتور عبد المعين مفتاح، الخبير في الاستراتيجية المؤسسية والتحول الإداري. د. مفتاح يرى أن الشركات الصناعية لا تموت – بالضرورة – لأنها ضعيفة، بل لأنها تفقد قدرتها على التكيّف مع التحولات المستمرة في السوق، فالجمود الإداري، والاعتماد على نجاحات الماضي، وعدم الاستثمار في الابتكار، هي العوامل الرئيسية وراء انهيار الشركات.

تحديات كبيرة

ففي سوريا، ومع التحول من اقتصاد السوق الاحتكاري إلى السوق الحر المفتوح، تواجه الشركات الصناعية تحديات كبيرة، مثل المنافسة المتزايدة، تكاليف الإنتاج المرتفعة، وضغوط تبني التكنولوجيا الحديثة. ووفق تعريف الموسوعة البريطانية، فالصناعة هي مجموعة من المؤسسات الإنتاجية التي تولّد سلعاً أو خدمات أو مصادر دخل، وتشمل أربعة قطاعات مترابطة، هي: الصناعة الأولى: (استخراج الموارد الطبيعية). الصناعة الثانية: (تحويل المواد الخام إلى منتجات). الصناعة الثالثة: (الخدمات). الصناعة الرابعة: (اقتصاد المعرفة والمعلومات).

الشركات التي لا تتطور عبر هذه المراحل تبقى عالقة في الماضي، ومعرّضة للزوال. د. مفتاح يطرح أمثلة عن كيفية فشل الشركات وأسباب الفشل، فيقول: الدروس من الواقع العالمي واضحة، فهذه شركة نوكيا كانت تسيطر على أكثر من 40% من سوق الهواتف المحمولة عام 2007، لكنها فقدت 90% من قيمتها خلال خمس سنوات بسبب الجمود الاستراتيجي. كذلك شركة كوداك، مبتكرة الكاميرا الرقمية، رفضت الاستثمار في منتجاتها خوفاً على أرباح فيلم التصوير التقليدي، فانهارت عام 2012.

وأعلنت جنرال موتورز إفلاسها عام 2009 نتيجة بيروقراطية ضخمة وتأخر في تبني تقنيات السيارات الحديثة، بينما بلاك بيري خسرت حصتها السوقية بسبب تجاهل تجربة المستخدم.

هذه الأمثلة تؤكد أن موت الشركات غالباً يكون نتيجة فشل استراتيجي، وليس نقص رأس المال وحده.

خلل في الطرح

وبخصوص مطالبة بعض الصناعيين بحماية المنتج المحلي عبر تقييد أو منع الاستيراد، بحجة أن المنتجات المستوردة تُباع بأسعار أقل من تكلفة الإنتاج المحلي، يرى د. مفتاح أن هذا الطرح يكشف عن خلل في فهم طبيعة المشكلة؛ إذ لا يمكن للمنتج المحلي، الذي لا يتحمل تكاليف الشحن أو الجمارك، أن يكون أغلى من المستورد إلا إذا كانت هناك مشكلات داخلية في كفاءة الإنتاج أو في إدارة التكاليف، أو في ضعف الابتكار.

فضعف الإدارة يظهر عند إدارة المصانع بعقلية “ورشة أبو فلان”، دون دراسات الجدوى، والهيكل التنظيمي الواضح، أو التخطيط الاستراتيجي. ونقص رأس المال يظهر عندما يرفض الصناعي الشراكة لإنشاء مصنع قوي، فيضطر لشراء مدخلات الإنتاج بأسعار مرتفعة ومن السوق المحلي، ما يزيد التكاليف ويضع المصنع تحت رحمة الباعة. كذلك التفكير القصير يقتصر على المنافسة بالسعر المحلي فقط، متجاهلاً الجودة والتصميم، بينما السوق العالمي يربح من الابتكار لا السعر وحده.

غياب الابتكار

غياب الابتكار هو العامل الأكثر فتكاً بالشركات – بحسب د. مفتاح – فالنجاح لا يتحقق من دون تطوير مستمر للمنتجات، من خلال خلق جودة عالية، تصميم جذاب، وأفكار تسويقية مبتكرة. ويعرض مثالاً حياً على فكرته، فيقول: صناعي سوري أنشأ خط إنتاج يركز على جودة المنتج، تشغيل أوتوماتيكي كامل، واستخدام الألواح الشمسية لتقليل الاعتماد على الشبكة العامة وخفض تكاليف التشغيل ويعلّق: هذا هو التفكير الاستراتيجي الذي يحمي الصناعة ويضمن القدرة التنافسية.

ويستشهد بالإحصاءات العالمية التي تؤكد هذه الحقيقة، فتقرير Innosight الأميركي أشار إلى أن 52% من الشركات المدرجة في Fortune 500 عام 2000 اختفت بحلول 2020، ليس بسبب الحروب أو الكوارث، بل نتيجة فشلها في مواكبة التحولات التقنية وإعادة ابتكار نماذج أعمالها.

الدروس الاستراتيجية المستخلصة واضحة، وهي: على الشركات أن تسائل نموذج عملها باستمرار، تستثمر في الابتكار قبل أن يفرضه المنافسون، وتوازن بين مواردها البشرية والتقنية فالبقاء لم يعد للعملاق فحسب، بل للذكي القادر على التغيير المستمر.

الحماية الحقيقية من الداخل

الجدل حول حماية المنتج الوطني مشروع وضروري، لكنه يجب ألا يُختزل في رفع الرسوم أو إغلاق الأبواب أمام المستوردات – بحسب د. مفتاح الذي يرى أن الصناعة الوطنية لا تُحمى بالقرارات الورقية، بل بتقوية أساسها من الداخل، من خلال خفض كلف الإنتاج، وتحسين الجودة، وبناء علامة سورية قادرة على المنافسة في الداخل والخارج. فالحماية الحقيقية لا تكون ضدّ المستورد، بل مع المستهلك، ومع اقتصاد قوي قادر على إنتاج ما يفاخر به العالم. أما الشركات، فإنها لا تموت بسبب المنافسة، بل حين تتوقف عن التعلم، وتقدّس نموذجها القديم، وتخشى التجديد أكثر من خوفها من الانقراض.

آخر الأخبار
"حياة سوريا" للتبرع بالدم تنطلق ضمن مبادرة "لعيونك يا حلب " "الحكومة الإلكترونية".. استثمار في الإنسان والجهد والزمن ' الأنثروبومترية'... ليست للصناعة والهندسة فقط! كسر الصمت ونشر الوعي .. مفاتيح للنجاة من العنف الأسري مدخل دمشق الشمالي بحلة جديدة مشروع لدعم أسر الشهداء بريف إدلب الأحمد يُعلن استكمال انتخابات رأس العين وتل أبيض ونتائج أولية خلال ساعات خبير طاقة يقدم مشروعاً لضبط جودة أنظمة الطاقة الشمسية سوق الإسمنت السوري يحظى باهتمام دولي قطر تعيّن سفيراً فوق العادة في دمشق .. خطوة دبلوماسية بحجم استراتيجي هل تصبح سوريا مركزاً عالمياً لصناعات السيليكا والزجاج؟ المنتجات المهربة للأسواق.. خطر يهدد الصحة والاقتصاد جو ويلسون: السوريون ينهضون من الحرب بإرادة تبهر العالم إعادة تأهيل معبر الرمثا..رافعة للتنمية والاستقرار في الجنوب نائبة مفوضية اللاجئين: غياب الخدمات أكبر عائق أمام عودة السوريين أردوغان من قطر: تركيا لن تتخلى عن دعم سوريا ومسارها التنموي ابتعاث الضباط السوريين إلى تركيا والسعودية.. جسر للخبرة وبناء جيش حديث حين تتحوَّل رسوم حماية الصناعة الوطنية إلى أداة لخنقها! دوري الأبطال.. ليفربول يصحو في فرانكفورت والملكي والبافاري في كوكبة الصدارة ربان السفينة الأهلاوية: طموحنا مشروع للمحافظة على اللقب