ثورة اون لاين: تندرج أبحاث وأعمال المفكر الراحل محمد أركون ضمن السياق المعرفي النقدي الحداثي الذي عمل ويعمل عليه العديد من المفكرين العرب الذين يرون في الوضع المعرفي والثقافي الحاضر للأمة العربية نكوصا حضاريا ناتجا عن الجمود الفكري في التعامل والتعاطي مع الحداثة وبالأخص مع التراث الثقافي العربي الإسلامي الذي لم يستطع العقل العربي إعادة قراءته وإنتاجه بما يتناسب مع منجزات التطور الحداثي.
وفي كتابه (الأنسنة والتأويل في فكر محمد أركون) الصادر عن الدار العربية للعلوم (ناشرون) يقوم الباحث الجزائري كيحل مصطفى بتقديم دراسة موسعة عن أنسنة التراث العربي وتأويله عند هذا المفكر الذي وهب نفسه وعقله من أجل إحداث زحزحة فكرية في الجمود الحضاري للمجتمعات العربية والإسلامية التي تصنف ضمن دول العالم الثالث فكان منجزه الفكري النقدي خطوة أخرى يمكن أن تؤسس عليها وتبنى مرحلة النهوض الحضاري كما فعل ويفعل غيره من المفكرين العرب الغيارى على أنفسهم وعلى أبناء أمتهم نتيجة الوضع البائس الذي وصلت إليه من الضعف والتشرذم والخضوع للهيمنة والتلاعب بسبب غياب الفهم والاحتفاء بالبصم عن تراثهم وعن حداثة غيرهم.
وبعد نبذة عن هذا المبدع الذي ولد في الجزائر ودرس في فرنسا حيث نال الدكتوراه عن رسالته (نزعة الأنسنة في الفكر العربي) والذي أصبح محاضرا في الفكر العربي والإسلامي في جامعاتها إضافة إلى جامعات أوروبا وأمريكا ينتقل الباحث كيحل إلى ما استعان به أركون من مناهج ومصادر في بحوثه حيث كان المنجز المعرفي الذي حققته أوروبا هو مرشده ومعينه في إعادة قراءته للمنتج التراثي العربي الإسلامي من بداية عصر النهضة فيها حتى الطفرة السيميائية والأنثروبولوجية التي طغت على خطاب العلوم الإنسانية عامة وما ابتدعه منها مفكرو وفلاسفة أوروبا من نظريات في المعرفة أمثال فوكو وشتراوس وبورديو ودريدا وريكور وغيرهم من أصحاب المناهج ذات الطابع اللغوي كالبنيوية والتفكيكية ونظرية التلقي التي أحدثت انقلابا هاما في المعرفة والتاريخ الإنسانيين.
ثم يشرح كيحل مفهوم الأنسنة عند أركون الذي ينطلق من مركزية الإنسان بين الكائنات الموجودة وعلى أساسه يجب التعامل مع أي أفكار أو أحداث هذه الأنسنة كانت موجودة عند العرب والمسلمين قبل الأوروبيين منذ القرن العاشر الميلادي متمثلة بمفكرين عرب وإسلاميين متنورين كالتوحيدي ومسكويه والجاحظ وابن سينا وغيرهم الذين لم تنطلق رؤيتهم للحياة من منطلق شوفيني أو دوغمائي منغلق بل كانت قائمة على ميزات بينة في فكرهم تتمثل في التعددية والانفتاح على الفكر الإنساني المختلف ورفض العنف واضطهاد العقل والسماح بحرية الخيال وتنمية الفضول العلمي والحس النقدي اللذين هما أساس العقل الذي ميز به الخالق الإنسان.
هذه الأنسنة لم تمتد كما أسف أركون لفترة طويلة بسبب عودة طغيان اللون والاتجاه الواحد على الحياة الفكرية العربية الذي ما زال يعيق أنسنة الحياة الثقافية العربية إلى الآن ويجد أركون أن من الممكن تحقيقها في الثقافة العربية من خلال دولة القانون التي تستمد قوتها من مجتمع مدني قائم على التسامح يمنع انجراف الدولة نحو تعميم الصبغة الواحدة ورفض المختلف.
وفي بحوثه قام أركون بأنسنة التراث العربي الإسلامي حسب ما وجد كيحل من خلال أنسنة الأبعاد الفلسفية المكنونة في كل من النص والعقل والسياسة والتاريخ بالنظر إليها من المنطلق المادي التاريخي المكون لما عاشه الإنسان العربي الإسلامي والمتمثل في التطورات والتغيرات اللغوية والفكرية والسياسية والاجتماعية مستفيدا من الدرس السيميائي الألسني والأنثربولوجي في تبيان حيثيات هذا التراث بشكل علمي موضوعي يخلصه من تحجره بسبب ما تراكم عليه من اجترار أدى إلى تصنيمه وطمس رسالته المعرفية والإنسانية الحقيقية.
وينتقل الباحث كيحل في كتابه إلى (التأويل عند أركون) وبعد المرور في إشكالية المفهوم الذي هو ممارسة إنسانية عقلية تقوم على البحث عن المعاني العميقة للنصوص يميز الباحث بين الحالة التأويلية التي هي آلية معرفة بدائية لا تستجيب لإلحاح الروح الموضوعية والرؤية النقدية حيث التسليم قبل الفهم وبين الدائرة التأويلية التي تأتي بعد ذلك والقائمة على علاقة جدلية بين العلم والإيمان وهي لا محدودة لأنها توليدية تنتج عن علاقات متغيرة داخل النص ستؤدي إلى احتمالات لا تنتهي وانفتاح شاسع في المعنى بحيث لا يمكن القبض عليه كاملا أبدا لأنه في حركة دائمة ومن هنا جاء انفتاح الفكر الغربي وعدم اجتراريته واستمرارية تدفقه الطازج لأنه يبحث في كل معنى عن معنى وقد قام أركون بدراسة التأويل في التراث من خلال المجاز والأسطورة والمتخيل وآثار المعنى التي تمتلئ بها النصوص العربية.
كما عمل أركون حسب الباحث كيحل على قراءة متنوعة في التراث العربي الإسلامي مستندا إلى الفتوحات الفكرية التي قام بها العقل الغربي فهو يقرأ ويؤول نصوص هذا التراث معتمدا على المناهج التاريخية والظواهرية والسيميائية الألسنية وعلم الأنثربولوجيا والرؤى الاستشراقية التي ختمها بالقراءة الفلسفية التي هي من وجهة نظره الأكثر قدرة على إعادة تقييم ما تقدم من قراءات لأن خطابها نقدي تجاه كل الخطابات وهي كما رأى دريدا "تمنع الفكر من أن يتطابق مع ذاته" أي يتحول إلى نتيجة نهائية لأن هناك دائما مسكوتا عنه ولا مفكر به يستطيع التفكير الفلسفي وبالأخص التفكيكي إحضاره وإثبات دوره في المعنى.
إن تراث العرب المسلمين منتوج حضاري يقع موقعا عظيما عند أركون ومن هذا المبدأ سخر له فكره وجعل البحث فيه مشروعه الذي أراد به تحريره من الاحتكار والمصادرة التي تبقيه مسخا مدللا فهو بمحاولة تحريره أراد أن يكشف ما فيه من كنوز معرفية مخفية تحت التزمت والتخلف هذه الكنوز ستعطيه قيمته الحقيقية التي تفرضها مرونة المنطق والعقل لا صلابة وقساوة الجهل والتعصب.
المصدر: سانا