الثورة – رنا بدري سلوم:
كم مرةٍ حاولنا أن نكتب على كراساتنا المسائية خواطر نثريّة، لأن الصباح مسروق منّا، نكتب الأفكار على الجوّال ونحن نعد قالب الحلوى ونسقي زرع الشّرفات ونكحّل عين الصباحات بحبرالقصيدة أمام صراخ الأطفال ووعكاتهم التي لا تنتهي، تقرؤون الأخبار العاجلة، ومع ذلك تكتبون للقبض على قلق الفكرة قبل الهروب منها، أعترف لكم اليوم بتقصيري أمام الزمن، خاصة أن الشّاعرة نسرين بدور أهدتني مجموعتها الصادرة حديثاً “نون أيار” في أول أيار، لكن الغفلة التي سبقت الريف للعين جعلتنا نتأخّر إلى موسم الحصاد حزيران، ونشره اليوم مؤكدين لها سباقنا مع الوقت ومعها.
نركض مع هذه المجموعة الشعريّة كغزلان شوك لا نلبث أن نحطّ على ومضة شعرية إلا وتأتينا نسمات ربيعية تحملنا إلى غيرها، بنصوص تحمل الأمومة التي لا تنتهي بقصيدة، فتصرخ وتصمت وتقاوم وتتعب وتعتب، إنّها أمومة وأنوثة نسرين ليس إلا.
حرف تكوين تأملت مراراً أمام العنوان “نون أيار” هذا المفتاح التأويليّ. “نون” رمز التصوف، وفي القرآن الكريم “نون والقلم وما يسطّرون”، وكأن الشّاعرة تكتبُ كي تثبت وجودها وتقول لنا: ها أنا بأمر ربي كنت، فكتبت: “نونُ أيار كنحلةٍ في ضوءِ السُحبِ تزهرُ، والعسلُ يُقطَفُ من واقعٍ مرٍّ”.
سأستعين بفكرة كتبها الأديب التونسي رياض الشرايطي في دراسة نقدية للمجموعة الشعريّة، وقد تطرق إلى “النون ككتابة جسديّة” كتب فيها: “ضمن الإطارالنسويّ لما بعد البنيويّة، خاصةً في طروحات هيلين سيكسو، نجد أن المرأة مدعوّة لـ”الكتابة بجسدها” أي أن تستخرج النص من العرق، الرحم، الندبة، اللذة، الخسارة، لا من المعاجم الباردة.
نسرين بدّور تطبّق هذا حرفياً، لكن دون تنظير، اللغة هنا تنزف، لا تُؤلف: “أنا أنثى اليقين، لعاشقي الرحيق واليقين.. قطفتُ من شفاهِ الشريكِّ شِعراً” وهنا الشّاعرة لا تكتب لتُثبت أنها امرأة، بل تكتب بوصفها كوناً.
جميع نصوصها لا تقدّم “المرأة” كشخص، بل كحالة كونية: تُرضع، تُحب الزوج، تُنظف، تُكتب، تُولد، تُنجب الكلمات، تعجن القصائد كما تعجن الخبز.
كما في قولها: “العسل نتاج زاهيةٍ في موجٍ ولدتُ الفصل من رحمِ هذا… وتنعّمتُ في ربيعِ أيارَ الريان”.
إنها تُحوّل الطبيعة إلى رحم، والكلمات إلى مواليد، والفصول إلى تواريخ جسدية، فيتماهى الكون مع القصيدة، والمرأة مع الخلق.
الأنوثة والكتابة لغتان
في كثيرمن المقاطع، نجد ارتباطاً عضويّاً بين الجسد والقصيدة:
” يخال لي شفاهها عسل.. أقطف من رحيق أنفاسكم العسل.. طاقةٌ استمدّتْ نداها من الذهب”.
هذا النّوع من اللغة لا يأتي من “حرفة لغويّة”، بل من إحساس جسدي محض.
وهنا القصيدة ليست بنيّة تركيبيّة وحسب، بل إفرازٌ من مسامّ العاطفة. وهذا يضع نسرين في قلب ما تصفه إيرغاراي: “الكتابة الأنثوية لا تسعى لإقناعك، بل لتجعلك تشعر بما تشعره هي، تُدخل جسدها في اللغة، فتمضي الحروف مرتعشة”.
وفي هذه المجموعة الصادرة عن دار دلمون الجديدة للطباعة والنشر،والتي صممت غلافه الفنانة فيفيان الصايغ، نلامس شعريّة وشاعريّة الحياة اليومية بدءاً من الغلاف وألوانه “حين يصبح البيت أبجدية مضيئة والزمن كمرآة للأمومة والتعب، في قصيدة “أحلام أم” وبيني وبين نفسي، يتحوّل الزمن إلى كابوس ناعم: “أريد تربية أطفالي كما أريد.. لكن الواقع الصعب يفعل بنا ما يريد”. الزمن هنا ليس خطياً، بل حلقيًّ.
الأم تستيقظ وتنام وتكرر، ولا فرق بين أمس واليوم. الزمن انمحى وصار “تعباً دائماً”، وهنا تتحقق مقولة أدريانا ريتش: “زمن الأمومة ليس زمناً للإنجاز، بل للانمحاء في حياة الآخرين”. “الحديث ينهكني.. وقتي فُقط مع أطفالي”. هنا تصبح القصيدة نفسها أمّاً، تعتني بتفاصيلها كما تعتني الشاعرة بأطفالها، وتصبح الكتابة تمريناً على التحمّل، على الاعتناء، وهذا يُعيدنا إلى ما كتبته ريبيكا سولنيت: “الكتابة عند النساء هي ردّ فعل ضدّ المحو.. هي حفرة تُحفر في الرمل كي لا يجرفكِ الطوفان”.