الثورة – أحمد صلال -باريس:
بصفتهم ناطقين رسميين لجيل كامل، دافع الشعراء السوريون، بدافع الضرورة، عن حقوق الشعب في مواجهة النظام المخلوع، وما زالوا يحشدون قواهم اليوم أكثر من أي وقت مضى. من خلال تاريخه، ومن خلال الشخصيات المحورية التي جسدت الحركات الرئيسية لهذا الفن، ساهم الشعر السوري في تجديد هذا النوع الأدبي. سواء كانوا نساءً أم رجالا، لم يترددوا في التعبير عن آرائهم في ظل حرية التعبير، بل إنهم يطالبون بأحد أهم حقوق الإنسان، حق العيش في مجتمع يوفر الرفاه ومستقبلًا للجميع.
تجديد الشعر العربي

يؤكد الشاعر حسن قنطار في تصريحه لصحيفة الثورة عن مضمون ديوانه “بالكاد أجمعني” طباعة دار موزاييك للدراسات والنشر، على الدور المحوري للشعراء السوريين في تحديث الشعر العربي، وفيه يميز التصنيف الذي وضعه في مختاراته الشعرية بين الشعر العامودي الكلاسيكي بوزنه الصارم، والشعر الحر بقواعده الأقل تقييداً، وقصيدة النثر. ومن المهم الإشارة إلى أن هذه المراحل تتوافق مع ديناميكية عالمية شكلت تطور الأدب بأكمله، الانتقال من القيود الشكلية أو الدلالية إلى حرية خلق أشكال متنوعة من التعبير الفني. ولا يمكن فصل هذه الحركة التحررية التقدمية، التي نسميها عادةً الحداثة، عن السياق السياسي، فاستحضار الاستبداد والحرب والمقاومة يستلزم ابتكار لغة محددة.
التعبير عن الحيرة
يُفتتح ديوان قنطار بشعور من عدم اليقين يتجسد في شاعر يكافح لفك رموز محيطه المباشر، الزمان والمكان والكائنات والأشياء غارقة في حيرة عنيفة، تُبرزها موضوعات الوطن والحب والحياة والحرية والسلام والطمأنينة والتسامح والموت والغياب والوجع: “أيا وطناً عصر اليوم قلبي”، وفي مكان آخر: “دمشق قمت بعد حلمٍ”. عالقًا بين الماضي والحاضر، فقد الشاعر بوصلته. كل شيء “افتراض”، فرضية، تساؤل، من شارع إلى آخر، كل الطرق تؤدي إلى أرض سوريا المنهوبة، إلى وديانها وجبالها الضائعة: “يا هذه الأصواتُ/بين قوافلي/يا لسعة الأمتار قربَ منازلي”. تؤكد قصائد قنطار فكرة أن الكائن السوري محكوم عليه بنوع من الانفصام الدائم، يُنقش السراب في الجغرافيا بقدر ما يُنقش في الأجساد والنظرات.
الاغتراب في التجربة الشعرية السورية
في التجربة الشعرية السورية، يُخبرنا قنطار أن الضياع والاغتراب يُشكلان ضباباً كثيفاً يبتلع كل ما في طريقه، حتى الجمال يُصبح مرادفًا للعنات والشذوذ: “وتجمع من شتائي الآن /طفلاً/ وتنثر من يقيني ما يقيها”. وكغيره من شعراء الجيل الجديد، يمتلك قنطار موهبة تكثيف معاناة المواطن السوري في صور مُقلقة في دقتها ووضوحها. لم يعد للجمال مكان في الحياة اليومية التي تُختزل إلى سلسلة من الكوابيس والمرثيات. كل حضور مادي تطغى عليه صورة اختفائه المُهووسة.
التحرّر التدريجي والحداثة في الشعر
وفي التحليل النقدي، فإن ما يُسمى بالفترة الكلاسيكية قد أفسحت المجال لتحرر تدريجي. أصبحت الأشكال أكثر مرونة، وبُحثت المواضيع بلغةٍ أدرجت بشكل متزايد استحضارات الحياة اليومية، يُصنّف الشعر الحر وقصيدة النثر، مُميزين بين ثلاث “حداثات”. يُمثَّل هذا النمط بنوعين من الشعر: الشعر الرؤيوي، وتيارٌ يُعيد للغة بُعدها العاطفي، ويُقدِّر استحضار الحياة اليومية في اللغة اليومية، وشعر قنطار يتقاطع معه.
القصيدة كخطاب للقارئ
في هذا السياق، تصبح القصيدة لدى قنطار خطابا للقارئ، وحاجة لمشاركة المشهد المروع لوجود معلق: “مذ قيل للعذراء: هزّ عفةً../ هزت شؤونُ الكونْ”. قد لا يكون للشعر السوري القدرة على تغيير العالم، ناهيك عن إنقاذه، ولكنه موجود لطمأنة الشاعر، لتأكيد له أنه لا يزال على قيد الحياة وأنه يستطيع الاستمرار في إعلان حقوقه ومعاناته.لذا، لا بدّ لنا من الإشادة بالعمل المبدع الذي قام به الشاعر حسن قنطار الذي ندين له بدينٍ لا يُحصى، فهو شاعر لا يُقدّم فقط تصنيفاتٍ تعكس الطبيعة المتطورة للتاريخ الأدبي لبلاده وحسب، بل يُتيح أيضا للقراء السوريين اكتشاف شعر متقن لم يعرفوه من قبل.